ليلة في البينالي — احزموا الأولاد واهربوا
المقدمة: الابواب
كؤوس الشمبانيا رنّت بينما أغلق أبواب الردهة الكبرى في المتحف بقوة. في البدء لم يلحظ أحد. عالم الفن نادراً ما يلتفت حين تبدأ الجدران بالانغلاق. الجهّات الجامعية كانت منشغلة بتبادل القبل الهوائية. القيّمون يتبادلون شائعات عن البندقية. الفنانون يضبطون بطاقات أسمائهم لتلتقط الضوء الصور.
ثم جاء الصوت: دوي معدني ارتدّ عن أرضيات الرخام وتماثيل النيون. بوابات الأمان هبطت كالمشارح. الجمهور ضحك ضحكة مرتعشة.
«ربما خلل تقني» قال مدير المتحف وهو يعدل دبوس الصدر. رفع كأسه: «استمتعوا. أنتم بأمان تام.»
ابتسامته امتدت بشكلٍ مبالغ فيه، كفيْنيل مشوّه تحت مصباح حراري.
كان هو أول من رحل.
الفصل الأول: القطع الأول
ما كادَ الحفل الافتتاحي ينتهي حتى انطلقت الصرخة الأولى عبر القاعات.
لم تكمل نجمة الماجستير حتى بيانها الفني. في لحظة كانت تتحدث عن ممارسة فنية حول إعادة توطين كبسولات منظفات الغسيل في سياق فينومينولوجيا قوس قزحية الأسطح، وفي اللحظة التالية اختفت، مسحوبة إلى الظلال خلف تركيبها الفني. بقيت بقعة من نص الجدول على الحائط تتقشّر من الأطراف.
تنهّدت الحشود. الهاشتاغات أُعدّت مسبقاً: #بينالي #حدّ_الحافة #فن_أدائي. البعض تذرع بأنها أداء.
«ليست تجربة تمرين» همست الباحثة، ممسكة بدليل بينالي مُعَرَّق منذ 2013، نظارتها متضبّبة من الهلع. «رأيت هذا من قبل. كتبت عنه. المعمار ملعون. الجدران تتغذى.»
لم يستمع أحد، كما يفعلون دائماً.
قبل أن تترك سحب التوتر أثرها، اختفى أيضاً الفنان الأسود صاحب العمل الضخم عن المراقبة والفرح، فوقته تحت قبة الردهة محاطاً بجمهور يردد كلمة «عاجل». الصخب استمر طويلاً حتى ابتلعه التصفيق؛ عندما توقف، لم يبقَ سوى صندوق فارغ مُختوم عليه: أَعِدْ إِلَى المُخْزَن.
«التمثيل»، همس أحدهم، «مرهق.»
الفصل الثاني: الكشف عن القاتل
المتحف بدأ يتحوّل حولهم. الممرات التفت على نفسها. بطاقات الشرح أعادت ترتيب نصوصها في الزمن الحقيقي. اللوحات امتزجت بالمنحوتات. عروض الفيديو تلفّت بمشاهد من معارض سابقة.
ثم ظهر هو.
القاتل.
يرتدي بذلة مفصّلة، أحذية مصقولة تعكس إشارات المخارج، لكن وجهه مخفي خلف قناع من فولاذ مصقول. على سطحه المرآتي تلمّعت شعارات كل صالة عرض كبرى في تشيلسي. صوته ناعم، مطمئن، أبوي تقريباً.
«التمثيل باقٍ إلى الأبد.»
في يد حمل عقداً؛ وفي الأخرى دعوة إلى عشاء جامعي للمقتنين. تقدم فارتعش الحشد.
المتفوّق الرياضي، السكران من حانة الافتتاح، تاخر ليثبت: «لدي بازل الشهر القادم، والبندقية بعدها. تظن أنك تقدر تقتلني؟ أنا المستقبل.»
مائل القاتل رأسه. التثاقل وقع، وتركبته المرآتيه الخاصة انهارت فوقه. قطعت زجاجاته أحذيته المحدودة، ومات وسط رذاذ من بريق صناعي وضباب اصطناعي — جثة جاهزة للإنستغرام.
«يبدو أنه ليس المستقبل»، تمتم أحد القيّمين.
المقتنية تحرّكت بصمت، شبحٌ في الأزياء الراقية؛ لحظة تمتدح فناناً، واللحظة التالية تسحب عمله إلى السوق الثانوية. مطارق المزاد سقطت كفؤوس، تجردت الحياة من قِيَمٍ ومهن. لم تترك دماء، بل سجلات إعادة بيع وخراب.
الشخصية السُلطوية المحكوم عليها لم تَنجُ كذلك. المدیر الذي استهتر بالخطر حُوصر في قاعة الاجتماعات بينما المتظاهرون يكسرون النوافذ الحاملة لرايته: «لا ربح للحرب في مجالس الإدارة. ألغوا أموال القذارة.»
حاول الثبات على براءته، لكن رسالة استقالته كُتبت بحبرٍ أحمر.
حتى ذلك الحين، كانت الباحثة تخطُّ في دفترها بجنون: «النظام نفسه هو الوحش. البينالي حيّ. السوق هو الوحش. الجدران—»
ابتلعتها نغمة تركيب صوتي محيطية. لم يسمعها أحد. حتى فات الأوان.
الفصل الثالث: عدد الجثث يتصاعد
في الثانية صباحاً، خفت الحشود في الردهة. الظلال تجمعّت في الزوايا. قطعة فيديو لغياب شمس متكررة فجأة عرضت جثة الرياضي بمقياس عملاق.
المجموعة الساخرة حاولت الحفاظ على المعنويات. كانوا جماعة مرنة حولت خزانة مستلزمات إلى معرض من قبل. مزحوا حول أرباب العقارات والمؤسسات التي تدفع مقابل الظهور.
«سنؤسس معرضنا في بوشويك»، قالوا. «سنفعل ذلك أفضل. لا هرمية. لا مصاصي دماء.»
أجابتهم الجدران بانهيار. سحقهم تحت فواتير غير مدفوعة، رفضات المنح، ومخالفات كود الحريق. حفيف الشيكات المُمزّقة حلّ محل ضحكاتهم.
العذراء سارت بصمت؛ لم تكن لها جامعات ممولة، ولا جنون السوق، ولا فضائح. أخفت رأسها، وممارستها متواضعة. لم تلمس يوماً توكنات غير قابلة للاستبدال، ولم تتودد لتاجر بلو-تشيب. أمسكت دفتر رسومها كما لو كان مسبحة.
لأنها رفضت اللعب، بالكاد لاحها القتلة. انزلقت بين الخراب غير مرئية، سالمة.
قاومت الباحثة للبقاء على قيد الحياة. لوّحت بدليلها كسلاح، تستشهد بالمراجع وتقتبس هال فوستر. «علينا مقاومة العرض»، صاحت.
ابتلعها الجدار. كل ما تبقى حقيبتهاا: الفن مقاومة.
«علينا مقاومة العرض»، صرخت.
الفتاة الأخيرة راقبت كل شيء بصمت. لم تكن بديعة الشكل، ولم تكن صاخبة. عاشرت سنوات من التهميش، ووصفت بأنها صلبة لكن بلا بريق، موهوبة لكن غير محبوبة.
لكن معها حقيبتها: شريط لاصق، معجون جدران، أموال منحة متبقية، بطاقة وجبة إقامة فنية. أدوات البقاء.
حين اندفع القاتل الكبير، سدت الفتحة بشريط لاصق. عندما حاولت المقتنية قلب عملها، سحبت عملها بهدوء من المزاد. عندما زأرت المؤسسة، لجأت إلى مرسمها، تنتظر اللحظة.
هي لم تقاتل من أجل المجد. قاتلت لأجل الاستمرار.
الفصل الرابع: الفجر
مع بزوغ الفجر، لم يبقَ سوى الفتاتين. همست العذراء: «كيف نجوْتِ؟»
هزت الفتاة الأخيرة كتفيها: «لم أتوقف عن العمل أبداً.»
صدأت أبواب الردهة وفتحت، وانسكب ضوء الصباح. خرجت الفتاة الأخيرة إلى الصقيع الصباحي، ثيابها منقطة بغبار الأكريليك. خلفها، تأوه المتحف وانهار، وبدأ يعيد بناء نفسه لدورة العام المقبل.
لم تلتفت للوراء.
الخاتمة
أسابيع بعد ذلك، نشرت صحافة الفن تقييماتها:
«البينالي كان انتصاراً للصمود.»
«السوق لا يبدي أي علامات على التباطؤ.»
«خلف المدير الجديد وعود بالإصلاح.»
لم يذكر أحد الدماء. لم يذكر أحد الجثث.
الفتاة الأخيرة وحدها تذكرت. حملت الذاكرة إلى مرسمها، عالمةً أن الدورة ستبدأ من جديد. ففي عالم الفن، البقاء ليس نصرًا. البقاء مجرد ممارسة أخرى.
