أوليفيا لاينج رواية تاريخية جديدة — صانعو الأفلام يواجهون الفاشية

الكتاب الفضي: رواية — أوليفيا لاينغ
Farrar, Straus and Giroux، نيويورك، 2025 — 256 صفحة. (بإحترام للناشر)

نحن في سبتمبر من عام 1974: إيطاليا متأججة، اليسار الراديكالي واليمين الفاشي يتصادمان في ما سيعرف لاحقاً بسنوات الرصاص. فيديريكو فلليني وبيير باولو بازوليني يتهيأان لتصوير كازانوفا وسالو على التوالي، والمصمّم البارز للملابس والديكور دانيلو دوناتي مطلوب للعمل على العملين معاً. يدخل على هذا المشهد نيكولاس ويد، شاب خريج سلايد فرّ إلى فينيسا بعد وفاة مفاجئة لحبيب سابق في لندن. بينما هو جالس يرسم كنيسة سان فيدال، يلتقي دانيلو به، وبعد الليلة الأولى بينهما يصبح نيكولاس عاشقاً وتلميذاً للمصمّم. دانيلو يلاحظه فيقول: «هو أفضل من الكاميرا، أكثر ملاحظة. أكثر فائدة.»

تفتتح أوليفيا لاينغ روايتها بصياغة زمنية مشحونة، لكن الكتاب لا يبدو رواية تاريخية تقليدية. نثْرها مقتضب وممتنع، مبني على لمحات تفصيلية بدل السرد الموسع: هيبيز في محطة قطار، عرض لفيلم Don’t Look Now في السينما. في هذا النص، كما في الحياة، لا تُطرح أهمية الحقبة صراحةً بقدر ما تُشعر. تتركز الرواية على أفعال اليوميّة لنيكولاس ودانيلو، مهام إبداعية مكرّسة لخيالات السينما: تصميم الأزياء، صنع الديكور، الرسم. ومع ذلك، يجادل الكتاب بأن عمل الفنان لا ينفصل عن الزمن الذي يُنتَج فيه، مهما انهُدمت فيه الأوهام والتزييف.

قلب الرواية هو علاقة دانيلو ونيكولاس، علاقة مثلثية تشتبك فيها ولعنةما المشتركة بصناعة الفن. منذ البداية تُحضر لاينغ عالماً حميمياً وحسيّاً: في ليلة نيكو الأولى في غرفة فندق دانيلو في فينيسا، يماثل المكان كهفه تحت الماء؛ «هو يشعر كاللؤلؤ، مثبت بعناية.» سرد الغائب لدى لاينغ رشيق، يتنقل بين منظوري دانيلو ونيكو. دانيلو—الأكبر سنّاً، المكتفٍ بذاته—«نظيف» في عيون نيكولاس، يمتلك قدرة على نسج الأزياء من العدم، بينما نيكو موهوب وضائع: «كمن يجد جرو صيد أحمر على جانب الطريق»، كما يفكر دانيلو. نيكولاس، مفلس ومنبوذ من أهله لأنه مثليّ، وقد تخلّى عن حياته في لندن، يحتاج إلى دانيل للبقاء؛ وبدوره يحتاج دانيلو إلى نيكو ليُعطيه من يُعتنى به.

نثر لاينغ يغتني بالحسيّة المشتعلة في علاقتهما: «يخفض سروال نيكولاس، يملؤه على السرير، يندفع بوجهه إلى مفترق أعضائه، ثم يقلبه ويفتحه كخِوَخة.» خلفية لاينغ ككاتبة فنون وحبّها الواضح للفنون البصرية تتجلّى في لغة الجمال واللذة التي تغمر الرواية: أرنب مذبوح في حساء رأس السنة يستدعي لوحة سِجاليّة هولندية، ودانيلو يتأمل أن نيكولاس «يبدو كملاكٍ من عصر النهضة، وإن كان إنجليزيّاً بطبيعة الحال.» النص صريح في كِينه للمثلية والإثارة الجنسية، وممتع للقراءة بلا مواربة.

يقرأ  متحف اللوفر يعيد قراءة أعمال جاك لويس دافيد برؤية جديدة

رغم ذلك، نثر لاينغ ناعم أكثر من كونه فاحشاً؛ لديها قدرة على التقاط تقلبات الشوق والرغبة بدقائقها. بعد أن يمر نيكولاس بنظرة حكمية أولية ثم يكتشف التجوال الجنسي، يختبر لقاءً مع فتَيين عند الكولوسيوم: «إنها كثرةٌ مبالغ فيها لدرجة أنه كأنما انفجرت حدود جلده.» في الصباح التالي، حين يخبر نيكولاس دانيلو، يرد الرجل: «حسناً يا فتى النهم»، ثم يرسله ليتسوّق المؤن. ومع انجذابه المتزايد إلى بازوليني، ذلك المخرج الوسيم المحكوم عليه بالهلاك والذي تدور حوله النصف الثاني من الكتاب، تكون الجاذبية «ليست انجذاباً بالمعنى التقليي، بل أشبه بتغير الضغط الذي يحدث لو ظل بركان مضغوطاً حتى صار حجمه بحجم حجر.»

يقدّم بازوليني في رواية لاينغ فيلم سالو على أنه استناد إلى رواية ماركيز دي ساد (120 يوماً من السّقوط)، التي تتركّز على أعمال منحرفة وسادية لأربعة «متحرّرين» عجزة، يسعون وراء السلطة واللذة. في فيلمه، ينقل بازوليني نصّ العنف الجنسي والتعذيب إلى جمهورية سالو، الدولة الدمية التي أنشأها النازيون عام 1943، وهي المحطة النهائية لإيطاليا الفاشية الموسولينية. الفيلم إدانة للسلطة دون رادع والقسوة الناتجة عنها — أو كما يقول نيكولاس: «الأربعة المتحررون فاشيون يشاركون في orgy أخير من الإرهاب بينما البلاد تزلزل من تحت سيطرتهم.» بحسب تصوّر لاينغ لبازوليني، كانت جمهورية سالو «جمهورية جديدة من حدة وشرّ لا مثيل لهما.» هي حقبة عاشها بازوليني ودانيلو رغم جهل نيكولاس بها. «سالو موقع على خريطة، لحظة زمنية، حالة ذهنية تتقدم وتزول، وربما الآن تقترب في المرآة الخلفية.» كان الفيلم، والأمر جوهري، تحذيراً — لفتة إلى إيطاليا لكي تنتبه إلى الفاشية التي تتكثف من جديد.

صعدت لاينغ إلى الظهور أولاً بكتابها غير الروائي مدينة الوحدة، حيث وضعت سير ثمانية فنانين مقابل استكشافها الفلسفي والشخصي لوحدة الإنسان. قدرة لاينغ كمؤرخة وسيرَة حياتية تضفي على الكتاب عمقاً إضافياً؛ نثرها الفاخر الجميل مدعوم ببحث دقيق يجعل الكتاب الفضي ينبض على أكثر من مستوى. «الكتاب الفضي» رواية تعدّ أول خُطوة للاينغ في مضمار الرواية التاريخية، ذلك النوع الأدبي الذي يخبرنا عن الحاضر بقدر ما يكشف عن الماضي. عبر تركيزه على فيلم بازوليني “سالُو”، العمل الذي يجابه التاريخ بحد ذاته، تصنع الرواية طبقات من السرد ما بعد التاريخي، حيث تتصادم الشكل والمضمون. تصوير لاينغ لعمل بازوليني يسعى لجذب انتباهنا إلى التكرارات المتواصلة التي لا تملّ منها التاريخ، وفي عصرنا هذا الموشوم بصعود الفاشية وتزايد العنف والمحافظة، تبدو الرواية آنية بشكل مخيف، وكأنها مرآة تعكس زمننا بذالك.

يقرأ  «حوارات مع الصور»للفنان جوزيف ستايبلز

كان مقصودًا من فيلم “سالُو” أن يكون بيانًا سياسيًا على نطاق هائل، ويقف بازوليني في متن الكتاب كبوصلة أخلاقية متقدة. يقتبس لاينغ عبارات مباشرة من مقابلات المخرج-الكاتب، حيث ندد بالاستهلاكية وتحدث ضد نظام الرأسمالية: «كلنا مذنبون، لأننا جميعًا مستعدون للعب دور ذبح بعضنا بعضًا، طالما أننا سنتمكن من امتلاك كل شيء في نهاية الذبح». ومع ذلك، فإن تحذيرات بازوليني القاتمة تُغضَّ الطرف عنها. في الرواية يظهر كهادم أيقونات جذاب، تصدر عنه أقوال «هادئة، عقلانية، ونبوئية». عندما يخبر دانييلو نيكولاس بنشر مقابلة ل بازوليني، ويصفها بأنها «مثل قنبلة بنزين على هيئة ورق»، يقول: «إنه كمرض، مضطر لأن يقول الحقيقة. وأنا جبان وأخشى ثمنها».

لقطة من «كازانوفا» لفيديريكو فيلليني (1976).

في الأدب، يُستخدم الزيف والابتكار والاصطناع لبلوغ حقيقة أعمق؛ والسينما تفعل ذالك أيضًا. ونحن نشاهد فيلم رعب نعلم عقليًا أن لا دماء قد سالت فعلًا، ومع ذلك نصرخ في الظلام. خلف الكواليس، كان صنع “سالُو” —الذي وصفه البعض بأنه أسوء فيلم على الإطلاق— مشهدًا مرحًا ينسجم مع حياة طاقم مليئة بالمراهقين نصف العراة يتناولون رقائق البطاطس. عبر اختيارات دانييلو —ثياب زمنية؛ أمواج محيط من بلاستيك؛ جداريات مصنوعة من الحلوى تردد صداها القاتم في شوكولاتة لامعة تحاكي البراز المزيف— يقودنا لاينغ عبر الزيف الذي يُركّب الواقع. في السينما، كل شيء يُصنع من شيء آخر.

ومع ذلك، في قلب هذا الاصطناع ثمة ما هو حقيقي: «قد يبقى الآخرون بلا تأثر، معصوبي البصر بطريقة غامضة، لكن النزول اليومي إلى الجحيم بدأ يؤثر في نيكولاس،» يكتب لاينغ عن تغير نظرته أثناء تصوير “سالُو”. غير قادر على الانفصال تمامًا عن العالم الوهمي للفيلم، يكتشف نيكولاس أن العنف الزائف قد يكون مثيرًا للاضطراب بقدر العنف الحقيقي: «الأمور بدأت تختلط كثيرًا».

يقرأ  كولوسوس و«ويلنس بيت كومباني»تطلقان هوية علامة تجارية جديدة وحملة مفعمة بالبهجة

جميع الشخصيات في الرواية، كما لاينغ نفسه، تصنع أشياء. عندما يلتقي دانييلو نيكولاس لأول مرة، يكون الشاب يرسم. نزل نيكو لتوه من القطار، «سيضطر إلى العثور على مكان يبيت فيه»، يكتب لاينغ، «لكن أولًا، الحاجة تكاد تكون جسدية، سيجد مكانًا يجلس فيه وسيبدأ بالرسم». يفهم لاينغ هذا النداء، نداء الفنان، الرغبة في تفسير العالم إلى شيء يمكن الإمساك به ومشاهدته، رغبة تلامس وتتمازج مع الجنسي. عن رسم صنعه نيكولاس أملاً في إبهار داني: «يد [الملاك] تمسك برمح يدسه بخفة في رقبة الشيطان. ينساب الدم». عندما يقول دانييلو إن نيكولاس أفضل من كاميرا، يعني أن لا شيء أبلغ من العين البشرية، ولا شيء أهم من وجهة نظر، من طريقة تفسير المرء للعالم. الكتاب الفضي يتحدث عن القوة الهائلة للفن: رسومات نيكولاس هي التي شدّت انتباه دانييلو أولًا؛ وسياسات فيلمه الأخير، “سالُو”، هي التي، كما في الحياة الواقعية، جذبت أنظار قتلة بازوليني. في نوفمبر 1975، قبل أسابيع قليلة من صدور الفيلم، اُغتيل بازوليني بوحشية على شاطئ في أوستيا بإيطاليا. جريمة قتله ما تزال دون حل.

كل فن هو ثمرة زمانه، سواء أقرّ بمظروف نشأته أو غطّاه بالتشتيت والزيف. عبر تراكب اللحظات التاريخية —إيطاليا في 1975، جمهورية سالُو عام 1943— وعودتها إلى الواجهة في عصرنا هذا مع بوادر الفاشية من جديد، يُلحّ لاينغ على القارئ كيف يطبُع التاريخ الحاضر. لا مهرب منه؛ عنف «سنوات الرصاص» هو ما رآه بازوليني يقترب في مرآة الرؤية الخلفية. يفرض علينا لاينغ أن نسأل: إلى أي مستقبل نحن نتجه؟

أضف تعليق