الاحتفاء بعلم الألحفة: فنّ، حرفة وابتكار

تشهد فنون النسيج انتعاشاً بارزاً ونقلة نوعية في مستوى الاعتراف بها داخل المشهد الفني المعاصر. تشكّل الحياكة والمنسوجات محوراً رئيسياً في سلسلة معارض حديثة تُعيد قراءة جذور هذه الحِرف وأثرها في الفن الحديث، وتعرض أعمالاً فنية مصنوعة من القماش والخيوط ضمن عروض رفيعة المستوى. في سنة 2024 صاغ بعض النقاد صورة تعكس هذا التوجه باعتبار المشهد الفني قد خضع “لحِمية عالية الألياف”، في إشارة إلى التصاعد اللافت لاهتمام المؤسسات والمجتمع الفني بهذه المواد.

في موسم المعارض الحالي تتصدّر اللحف الأميركية واجهة الاهتمام في متاحف تمتد من ساحل إلى ساحل. معارض معمّقة تعرض براعة المجتمعات الإقليمية لصانعات اللحف، من معرض “المسار الغربي: لحف القرن العشرين للأميركيين الأفارقة في كاليفورنيا” في متحف بيركلي للفن وأرشيف الفيلم، إلى “من الملح والروح: لحّافات سود في الجنوب الأمريكي” في متحف بروكس بممفيس. في أتلانتا، سلّط معرض بعنوان “أنماط في التجريد: لحف سوداء من مجموعة متحف الهاي” الضوء على قطع من مجموعة دائمة مخيطة على يد نساء سود. ومتاحف أخرى — مثل متحف فرست في ناشفيل ومتحف تافت في سينسيناتي — قدمت روايات مختلفة للحِياكة تلامس التاريخ الاجتماعي، والرمزي، وتقنيات الصبغ العالمية.

ضمن هذا السياق، افتتح متحف الفنون الشعبية الأمريكي معرضه «علم البيئة للحِياكة: التاريخ الطبيعي للأنسجة الأميركية» في أواخر سبتمبر، بمناسبة إعادة فتحه بعد إغلاق للصيانة الصيفية. يضم المعرض نحو ثلاثين لحفاً من القرنين الثامن عشر حتى العشرين، ويقترح قراءة مختلفة للحِياكة عبر علاقاتها المتشابكة مع الطبيعة والصناعة وعمليات الإنتاج البشرية. بدلاً من التركيز على هويات الخيّاطات بوصفها موضوعاً مركزياً، يدرس العرض الروابط بين الأنظمة الطبيعية والبشرية منذ منبع الحرفة: الكائنات الحية (نباتات وحيوانات وحشرات) اللازمة لصناعة الأقمشة — ومن ثمّ للحفّ.

يقرأ  ساشا كراوتمن — بووووووم!ابتكار، إلهام، مجتمع، فن، تصميم، موسيقى، فيلم، تصوير فوتوغرافي، مشاريع

يفتتح المسار في المعرض بثلاث لحف كاملة القماش: لحف قطنية بيضاء بزخارف من نقاط بارزة وبتلات مزخرفة، تقابلها أمثلة ملونة زاهية. إلى جانب ذلك، تعرض اللوحات النباتية وأنابيب الصبغات التقليدية — بما فيها حشرات الكوتشينيل ومواد نباتية مجففة — أسس صبغ الأقمشة الطبيعي التي أُستخدمت في تلوين تلك القطع الزاهية. تبرز تدرّجات من عينات القماش قوة الألوان المستخرجة: النيلي العميق، وجذور المَدْر (الأحمر الزاهي)، ونبات الـweld الذي يمنح أصفر ذهبياً. ومن خلال جوار عرض مباشر تُعرض شرانق الحرير ومقادير من الصوف والكتان والقطن الخام إلى جانب قطع منسوجة من كل مادة مع لافتة تدعو الزوار الى اللمس.

يتحول المعرض بعدها إلى جناح يشبه حديقة نباتية غنّاء، حيث تفيض اللحف بزهور وكروم متصاعدة. لحفة بعنوان “إناء الزهور مع طيور” تعكس بهجة ووفرة لا ضابط لها، بينما لحفة أُعدت على طراز الألبوم من تصميم عالم الاجتماع الأميركي ريموند ف. بيلامي تَهتم بتصنيف أنواع الزهور مربعاً بمربع. كما يبرز في العرض لحف حدادٍ خضراء وبيضاء من منتصف القرن التاسع عشر تحمل رسائل مكتوبة بخط اليد وأشجار صفصاف مطرّزة للدلالة على الحزن وتذكّر أعضاء مجتمع ديني محلي.

في القاعة الأخيرة، تتجلّى قيم الاقتصاد والتريّث عبر مجموعات من اللحف الجيومترية المخيطة من قصاصات منقذة: قطع منسوجة ببراعة تعكس تاريخاً من الترشيد والابتكار. من بينها لحفة من خليط بوليستر وقطن بعنوان “تباين المحور” (1960) لخياطة من جيز بيند، وأعمال مثل “أجيرو-مونويو” (1995) للفنانة تومي ناغانو المصنوعة من كيمونو عتيق والتي تستلهم من تقنيات البورو والنسيج السلالي.

على الرغم من أن العنوان الفرعي «التاريخ الطبيعي للأنسجة الأميركية» يوحي بمنهج جامعي ودراسة متعمقة، فإن المعرض يعمل أكثر على كونه عيّنة تمهيدية غنية. نصوص الجدران مليئة بخلاصات تثري السرد: التجارة العالمية، عمل الرق، اختراع آلة تنظيف القطن، حواشي أعشاب القرن التاسع عشر، ولغة الزهور؛ كلّها اقترحت بذوراً لمعارض متفرعة وربما لمساءلات أكثر عمقاً. لكن كما هي لحفة “رصيف فيلادلفيا” — التي تبدو عند الاقتراب شبكةً دقيقة من مربعات صغيرة، وتتكشف تشكيلتها المبهرة من بعيد — يتنوّع إدراك المعرض بتدرّجاته: مشاهدة بطيئة ومتمعنة لكل لافتة وتفصيل تكشف شبكة من الروابط بين المواد والطرق والتكنولوجيا والتجارة، بين النباتات والناس، وفي النهاية النشاط الحميم المضموم في تاريخ كل لحفة. كما أن اختيار القطع الجمالي منسجم بصرياً: زهور وأوراق وقصاصات قماش تدور على السطوح بتماوجات لونية وحركية.

يقرأ  ريتشارد نيترا منزل من سلسلة «Case Study Houses» — معروض للبيع في لوس أنجلوس بسعر 10.5 مليون دولار

تتماسك خيوط هذا المعرض لتروي قصة تبدأ في الهواء الطلق، حيث تنبت البذور وتزهر وتمتد نحو الشمس. سواء كانت الدوافع توثيق جمال الأزهار، أو تحويل شظايا قماش مهملة إلى أغطية دافئة، أو استغلال الألوان الكامنة داخل النباتات، فإن العرض يدعو المشاهدين إلى إدراك السُبل المتعددة التي تزاوجت فيها براعة الإنسان مع القوى الطبيعية لتشكيل الحِياكة كفن تعبيري أميركي.

يستمر معرض «علم البيئة للحِياكة: التاريخ الطبيعي للأنسجة الأميركية» في متحف الفنون الشعبية الامريكي حتى 1 مارس 2026. قام بتنسيق المعرض إيميلي جيڤالت وأوستن لوسادا.

أضف تعليق