عندما تسود المراقبة والرقابة بذريعة الأمن، تتحوّل الفنون غالباً إلى «الكناري في منجم الفحم» الذي ينذر بخطورة الخنق الذي يمارسه الاستبداد على حرية التعبير. ثمة بيانات ملققة فجَّرت إنذاراً حقيقياً: سبعون بالمئة من سكان العالم شهدوا تراجعاً في حرياتهم التعبيرية على مدى العقد الماضي، فيما يعيش الآن 5.2 مليار شخص في أوضاع تصفها التقارير بأنها «أزمة» أو «مقيدة بشدة».
تلك الأرقام وردت في تقرير التعبير العالمي 2025 (Global Expression Report) الصادر عن منظمة Article 19 البريطانية، والذي اعتمد قياساً كميّاً لحرية التعبير على مستوى دولي. من بين 161 دولة شملها التقرير، بقيت 35 دولة فقط — ما يمثل 15% من سكان العالم — في تصنيف «مفتوح»، أي بيئات تُحافظ فيها الحرية التعبيرية عادةً وتُشجع. ولدى المقارنة العشرية تبين أن مقابل كل شخص اكتسب حرية تعبير، فقد 19 آخرون هذه الحرية. تقرير حالة الحرية الفنية الصادر عن منظمة Freemuse هذا العام جرى عليه ما يقرّب هذه الأرقام إلى مستوى إنساني ملموس عبر توثيق حالات الرقابة والسجن والمضايقات التي تعرّض لها الفنانون في مناطق متعددة، بما في ذلك دول تُصنّف ديمقراطيات مثل الولايات المتحدة.
بمصادره من بيانات Varieties of Democracy وإحصاءات السكان في البنك الدولي، قيّم تقرير التعبير العالمي 161 دولة عبر 25 مؤشراً تشمل حريات الإعلام والإنترنت وحقوق المجتمع المدني والتعبير الثقافي. النتائج تظهر تدهوراً واضحاً في الحريات التعبيرية على مدار العشر سنوات الماضية، وهو اتجاه أكّدته Freemuse أيضاً بوصفها حرية الفنانين في «أدنى مستوى لها منذ سنوات». تقرير Freemuse اعتمد خبراء إقليميين ومتخصصين موضعيين لجمع الشهادات والبيانات، وروى قصصاً مؤلمة: 16 فناناً مسجونين في كوبا، فنانين جورجيين تعرّضوا للتعذيب، معارض فنية مُنعت في تركيا بسبب خطاب معادٍ للمثليين، وحالات رقابة لفنانين — لا سيما في الولايات المتحدة وألمانيا — احتجّوا على ما وصفته الأمم المتحدة بأنه إبادة في غزة.
«التوترات الجيوسياسية، المتبرّعون الغاضبون، جماهير مستاءة، المخاوف من احتجاجات عنيفة، والتشريعات الجديدة كل ذلك يؤدي إلى بيئة متوترة يهيمن عليها القلق والرقابة الذاتية»، كتبت سفيتلانا مينتشيفا، المديرة السابقة لبرامج في الائتلاف الوطني ضد الرقابة، في تقرير Freemuse. وفي وقت سابق من العام أشار اتحاد معنيين بالفنانين وPEN America وجمعية مديري متاحف الفن إلى أن 65% من مديري المتاحف الفنية واجهوا ضغوطاً لعدم عرض عمل فني أو معرض على الأقل مرة واحدة. كثير من المستطلعين وصفوا تصاعد ضغوط الرقابة الذاتية، خصوصاً في سياق سياسات سابقة شملت خفض تمويل المؤسسة الوطنية للفنون، واستهداف متاحف سميثسونيان، وتهديدات للمؤسسات الأكاديمية.
تقول سارة ويوات، مديرة البحوث في Freemuse، إن الهجمات العالمية على الحرية الفنية تتراوح «من المرئي والوحشي مثل المنع والمحاكم والسجن والقتل، إلى الخبيث والغالباً المُهمَل مثل الحرمان من التمويل، وحرمان من مساحات العرض، والتحرش الإلكتروني، والنبذ الاجتماعي». والنتيجة، كما تضيف، هي مناخ متسلل من الرقابة الذاتية أصعب في رصده لكنه نفسه مدمّر، ونراه في كل أشكال الحكم من السلطوية إلى الديمقراطية.
وبالفعل فإن تآكل هذه الحريات مستمر. وعلى الرغم من بقاء الولايات المتحدة مُدرجة ضمن دول «مفتوحة» وفق تصنيف GxR، فقد ظهرت في تقارير سابقة — ومنها قوائم 2018 و2021 — ضمن دول تعاني اتجاهات مقلقة في قمع التعبير الفني. وفق تقرير GxR فإن ترتيب الولايات المتحدة العالمي هبط من المركز التاسع في 2011 إلى الثلاثين في تقارير لاحقة، وسجل تقرير 2025 تحسناً جزئياً إلى المركز الحادي والعشرين، لكن درجة التعبير (Expression Score) لم تتغيّر إلا بصورة طفيفة من 84 إلى 85 من أصل 100. وخصصت Freemuse جزءاً من تقريرها لعام 2025 للحديث عن مظاهر القمع في الولايات المتحدة، وعلى نحو خاص ما وصفتها بردود فعل ثقافية انتقامية.
تُعد هذه التقارير أدوات ضرورية لاستخلاص بيانات دقيقة حول «أي مؤشرات حرية التعبير تتعرض لأقسى الهجمات»، كما أشار باربورا بوكوفسكا، المديرة القانونية في Article 19. ولأن الفنون تملك قدرة فريدة على تحدّي السلطة وإعادة تشكيل الخيال السياسي للجمهور، تشدّد قيادات الحماية الحقوقية على أن على الفنانين استثمار هذا الموقع الاستثنائي لـ«تكبير» أصوات المقيدين ومساءلة الانتهاكات والظلم أينما وقع.
«ينبغي على الفنانين أن يستغلّوا هذا الدور الفريد ليمنحوا صوتاً للمسكوت عنهم، ويسلّطوا الضوء على الظلم وانتهاكات الحقوق والقمع، أينما وُجد»، كما حثّ كوين مكيو، المدير التنفيذي لـArticle 19، مخاطِباً ضرورة العمل العاجل والعميق قبل أن يفوت الأوان.