تُطارِدُهُ الرَّمَادِيَّةُ

ذات مرّة، بينما كنتُ غارِقاً في علاقة عاطفية تواصلت على نحو باهت حتى تلاشت، قلتُ لشريكي آنذاك إن حياتي صارت تفقد ألوانها. عندما رأيتُ معرض آمي شيرالد “السامِ بالمعايير الأميركية” في متحف ويتني تذكرتُ ذلك اللحظ، ليس لأن لوحاتها تُجسّد بؤساً مماثلاً، وإنما لأنّ أعمالها تذكّرني بمدى ما نفوته نحن الناظرون حين لا نُدرك شخصيات لوحاتها خارج سياق لون بشرهم، أي عرْقهم — وهو ما تدافِع عنه صراحةً.

في إحدى قاعات المعرض عُرض شريط من إنتاج Art21 بعنوان “آمي شيرالد في ‘الأيقونات اليومية'” بشكلٍ متكرر. في الفيديو تقول شيرالد إنّها تريد أن “يختبر المشاهدان تجربة ليست عن العِرق أولاً”. لهذا تستعمل تقنيّة الغريزايل — طلاء رمادي أحادي — في تصويرها للأشخاص السود. التقنية، المستمدة من كلمة gris الفرنسية التي تعني الرمادي، تعود إلى العصور الوسطى المتأخرة، حيث شاع استخدام دركٍ زجاجي غير ملون داخل سرديات الزجاج المُلوّن، ثم تبنّتْها مدارس التصوير كطريقة لبناء هيكلٍ أساسي للصورة ولإجبار الرسّام على الانتباه الشديد إلى ضربات الفرشاة والبناء التركيبي.

أول لقاء لي مع عرض شيرالد أثار عندي شكوكاً حول فعالية هذه الاستراتيجية. لقد ضجّمتُ كثيراً من الحوارات السخيفة التي يُصرّ فيها البعض أنّهم “لا يرون لوناً”، وهو ما يترك سؤالاً صارخاً عمّا أبدو عليه في نظرهم. لطالما رغبتُ في الردّ: إذا كان هذا صحيحاً — فلماذا إذاً قلتَه؟ مخاوفنا الثقافية عميقة وتنهال علينا دون إنذار.

مع ذلك، لدي تحفظات حول ما تخرجه الغريزايل فنياً من الإطار. أمام بورتريه شيرالد لمِشيل أوباما (2018) شعرتُ بأنّي حُرمت من وفرة بصريّة: فقدّم الغريزايل اليابس وجّه أوباما بدرجة رمادية وسطى، تاركاً للثنية الخفيفة للحاجب الأيسر وميول الذقن القليل وحدهما دلالات على شخصيتها، بينما تُسلَّط اللوحة اهتمامها على ثوبٍ ذو نمطٍ مميّز. مقارنةً بصورة أوباما المنشورة قبل سنتين في مجلة الأسلوب بنيويورك تايمز، نرى ثراءً في لون البشرة وتفاوتاً في الدرجات يواكب تضاريس الوجه — شفاه تكتسب ورديّتها تدريجاً، وخدّان يصعدان بتأثير الضوء، وظلال الرموش وحدود الشعر التي تخلق تجربة بصرية تشبه البحث عن لمحاتٍ من داخلها. غياب تلك التنويعات في لوحات شيرالد يجعل النظر إلى العيْن كأنه رحلة بحثٍ عن عالمٍ داخلي مُفقود.

يقرأ  أليك بروك — بووووووم! ابتكر ✦ ألهم ✦ مجتمع ✦ فن ✦ تصميم ✦ موسيقى ✦ سينما ✦ تصوير ✦ مشاريع

أسلوب شيرالد يميل إلى تسطيح غالبية مواضيعها وتحويلهم إلى قوالبٍ تمثيلية للأشخاص الحقيقيين — ليست كاريكاتيرات، بل أشخاص أشبه بشخصياتٍ في كتالوج أميركاني. انظر إلى لوحتها “أمريكانية كفطيرة التفاح” (2020): زوجان ينظران إلى المشاهد؛ امرأة ترتدي تنورةً طويلةً مزمّرة وردية، وقميص باربي أحمر، ونظارات ضخمة بإطار أصفر، حلقين متناسقين وحذاء أحمر؛ ورجل بستايل جينز أزرق قاتم، وتي شيرت أبيض وبنطلون كاكي وحذاء كونفيرس أبيض، يقفان بجانب سيارة كاديلاك كونفيرتيبل ضخمة ذات إطارات بيضاء الحافة. المشهد يستحضر أغلفة مجلات الأزياء والأفلام الشعبية منذ السبعينيات فصاعداً. كما تقول شيرالد في الفيديو: “أعتبر نفسي أمريكانياً واقعياً. إدوارد هوبر وآندي وايث يروّون هذه القصص الأميركية، وأنا أيضاً أروي قصصاً أميركية.”

أؤيّد هذه المهمة بشدّة. يجب أن تكون شيرالد بين هؤلاء الحكّائين، ومن حقّ السود أن يحتلّوا مكانة بارزة في أي سرد أميركي تقريباً.

السؤال الذي تثيره لوحاتها هو: هل تنجح مهمتها فعلاً؟ هل يخرج معظم زوّار المعرض بتجربةٍ تركز على معلوماتٍ غير الهُوية العرقية للشخصيات؟ هل كانت ستُعرض هذه الاعمال في ويتني لو أنّها لم تَصوّر الأميركيين السود بصورة متواصلة؟ الاستدلالات الظرفية من زياراتي تُظهِر توافداً كبيراً من جمهورٍ أسود إلى المعرض، ومن التغطيات الصحفية نعلم أنّهم يأتون لأنّهم يرون أنفسهم في اللوحات. رأيتُ كثيرين يلتقطون صورهم مع شخصيات شيرالد كما لو أنّ التجمع العائلي يقام هناك في القاعة بالفعل.

ورغم أنّ أعمالها تعمل أحياناً كلوحات إيضاحية أكثر من كونها تأملاتٍ نفسية عميقة، فإنّ عرض هذه الصور في العلن الآن أمر حاسم. في الواقع، ألغت شيرالد مؤخراً معرضاً كان مقرراً في المتحف الوطني للبورتريه التابع لمؤسسة سميثسونيان في واشنطن، معللةً ذلك باحتمال ممارسة الرقابة على عملٍ يصوّر تمثال الحرية بملامح متحوّلة جنسياً. حسب نيويورك تايمز، اتخذت القرار بعد أن عَلِمَت أنّ لوحتها قد تُزال لتجنُّب استفزاز الرئيس ترامب. في ظل امتثال بعض المؤسسات استباقياً لأجندةٍ معادية للشمولية، تُعَرّض إدارة فيدرالية المشهد الفنّي لهجوم يظهر عداءً لأي تصويرٍ للتاريخ أو الثقافة الأميركية يعترف بوجود أشخاص ملوّنين ومساهماتهم. هذه الحركة المحافظة الصريحة تسعى لادعاء صفة “الأميركي الحقيقي” كحقٍ أصيل لمنحدرين من أوروبا الغربية البيضاء فقط. عملياً، لا يمكن فصل قصص السود عن ثروة الأمة وهيمنتها السوقية وقوتها العسكرية — عناصرٌ قد تجعل البعض يصف البلد بأنه “عظيم”. ومن بين الأسباب القليلة التي قرّبت الأمة من وعد المساواة في إعلان الاستقلال كان النضال الطويل لحركة الحقوق المدنية التي قادها السود. تُصارِع شيرالد من أجل عدم استئصال السود من الروايات المستمرة لأمةٍ لا تكون كما هي لولا الأميركيين من أصل أفريقي.

يقرأ  أوسكار جويو: توظيف اللون والأنماط في أحدث أعماله

خلال العقد الأخير، أعلنت سلسلة من اللوحات التمثيلية السودية أن السود مختلفون عن التيار الأبيض السائد وليسوا أقلّ إنسانية — أمثلة على ذلك أعمال نواه ديفيس، نْجيديكا أكونِييلي كروسبي، هنري تايلور، لوبينا حُميد، وكيري جيمس مارشال. شيرالد جزء من هذا التيار. تسعى إلى وصف فضاءٍ جماعي للهوية لا يكون تجنيد المرء على أساسِ سواد بشرته ثمن الدخول إليه. لكنّ التكلفة الخفية قد تكون فقدان بعض روعتنا البصرية.

في الفيديو تُناقش شيرالد لوحتها عن بريونا تايلور، التي قُتلت برصاص الشرطة في منزلها في لويزفيل عام 2020، لتصبح رمزاً لهشاشة حياة السود. تُخذلنا اللوحة عند العتبة بين الأيقونة والحياة المعيّشة؛ تُصوّر بريونا كأنّها على غلاف مجلة، بفستانٍ أزرق بديع، وقلادة صليب ذهبي لامع، وخاتم خطوبة — ذلك لأن اللوحة كُلِّفت لغلاف عدد سبتمبر 2020 من Vanity Fair. تقول شيرالد: “أعتقد أننا استحققنا صورة كاملة عن حياتها.”

نعم، نستحق ذلك. لكن ألا نستحق هذه المكاملة لحياة الآخرين أيضاً، لأولئك الذين لم يبلغوا مرتبة الأيقونة؟ إذا حوّلنا السود إلى رموز وأساطير وشخصيات مُسطّحة، فكيف سيعترف الناس بإنسانيتنا حين يحلّ الظلام وتغيب دقّات ملامحنا الدقيقة، حين يقرع أحدهم الباب الأمامي مقتنعاً أنّه عندما يواجهنا وجهاً لوجه فلن يرى لوننا؟

أضف تعليق