حركة «لا ملوك» في فنِّ القرن التاسع عشر

لندن — كيف نرسم المحتقَرين والمهمّشين والضائعين حتى يطالعونا بوجودهم؟

هذا هو السؤال الذي واجه الفنان الفرنسي جان-فرانسوا ميليه في منتصف القرن التاسع عشر. كان موضوعه الفلاحون الذين يكدّون على الأرض: أصحاب الحقول الصغيرة أو العاملون المتجوّلون مثل قاطع الخشب الذي يهبط سريعاً وخطراً ليقطّع شجرة مريضة إلى جذوع يقذفها النساء محمّلاتاً على ظهورهنّ، مكرّسات عضلاتهنّ لإزاحة ثِقَلها الهائل.

على الرغم من أن ميليه كان بطلاً في نظر فنسنت فان غوخ، لما ألقاه من ضوء على سموّ وكرامة المستضعفين الذين لا يثيرون عادة هديراً، إلّا أن حضوره ظلّ نادراً نسبياً في لندن في السنوات الأخيرة. مع ذلك، تشكيلة «الحياة على الأرض» في المعرض الوطني تُعدّ أول عرض مهم لأعماله منذ نصف قرن، وتستحقّ الانتظار.

ولد ميليه في وضع مادي ميسور نسبياً؛ كان بيت العائلة مزرعة في الريف التلالي الخصب المحيط بقرية غروشي في نورماندي. ثم انتقل جنوباً إلى سهل باربيزون المسطح، على مقربة من باريس.

المعرص محدود النسق والحجم؛ الجدران مطلية بلون أزرق عميق غنيّ يضفي حيوية على هذه المجموعة المدمجة المكوّنة من خمس عشرة لوحة وستة رسومات. تبدو الأعمال وكأنها تنكمش نحو ذاتها، فتزداد حضوراً وتركيزاً داخل هذا الفضاء المغلق.

كان ميليه مولعاً بوضعيات الأجساد — كيف تنحني وتتكوّر وتدور وتجهد حول الأدوات المتاحة. عملهم قاسٍ حتى الانكسار، يُحتَمل لساعات طويلة. كثيراً ما صور الفلاحين وهم يلبسون أحذية خشبية تقليدية، في مقابل العديد من الرسامين المعاصرين الذين كانوا يفضلون تصويرهم حافيي الأقدام كأن الأرض بساط ناعم عديم مخالب؛ لكن الطبيعة ليست هكذا: فيها الصخور والشوك، وما يجهله العاشق الباريسي العاطفي بلا خبرة ريفية.

من اللوحات الأكثر درامية في المعرض «قاطعو الخشب» (1850–52)، التي تتناول العمل البدني الخالص: رجلان يتصارعان مع دفع وسحب مناشيرهما على جذع عملاق مُسقط. كيف ينحنيان ويستندان إلى مهمتهما، يكافحان ويثابرون! تبدو الهيبة العضلية للجذع عظيمة أمام قوام الرجلين الضئيل نسبياً؛ والرجل الذي ظهر بظهره لنا، وساقاه منحنيتان وإحدى رجليه متباعدة في سروال أخضر لامع، يكشف عن أناقة خفيّة — كما في كثير من عمال الريف عند ميليه الذين غالباً ما يعملون وانفراد. كان من مهمته أن يجلب إلى صورهم هذه نفحة من الكرامة.

يقرأ  صور كارلوس خافيير أورتيزتدعو المشاهدين ليكونوا مشاركين في مناصرة العدالة الاجتماعية — كولوسال

لوحاته لم تلقَ قبولاً موحّداً بين نقّاد عصره؛ إذ اتّهمه المحافظون بالتعامي عن النظام الاجتماعي بل وحتى بالثورة الخفية، بينما رآه التقدميون محقّاً وهو يدير ظهره للبهرج الملكي ولمَجد البارونات والوجهاء.

مثل قاطعَي الخشب في لوحته، استمرّ ميليه في الرسم دون تردّد، مُتعلّقاً بمهمته.

بين الأعمال الأخرى اللافتة في التشكيلة: «المنخل» و«رجل يحرث وآخر يزرع» و«بائعة الحليب» و«الأنجلو» — نماذجٌ تتوزّع بين الرسم الزيتي والطباشيري، وتؤكد مرّة أخرى على ولاء الفنان لصوت الفلاح ولقيمة العمل اليدوي.

تستمرّ «الحياة على الأرض» في المعرض الوطني (ساحة ترافالغار، لندن) حتى 19 أكتوبر. قُمّ بتنظيم الزيارة إن أمكن؛ فالحوار الذي تفتحه لوحات ميليه عن الكرامة والعمل والريف لا يزال حياً ومؤثّراً.

أضف تعليق