ديفيد دياو يختطف تاريخ الحداثة ليجعله أكثر شمولاً

لوحات بارنت نيومان التجريدية — مساحات أحادية اللون مهيبة تقطعها «خطوط» رفيعة من اللون كأنها شقوق — أثارت لدى كثيرين اندهاشاً وإجلالاً شديدين. في تقريره عام 1970، سنة وفاة نيومان، ذكر الناقد بيتر شييلدال أن رجالا بالغين بكى بعضهم أمام سلسلة نيومان 1958–66 «محطات الصليب»، وهي أربع عشرة لوحة تُحيل ظاهرياً إلى آخر يوم ليسوع المسيح من دون أن تصوّره صراحة. بعد ثلاثين عاماً اعترفت الفنانة أندريا فريزر بأنها بكت أمام Vir Heroicus Sublimis (1950–51)، اللوحة الأيقونية لنيومان في متحف الفن الحديث: «بدأت أبكي، توقفت لحظة لأستجمع نفسي ثم واصلت».

مقالات ذات صلة

كان نيومان يفضّل أن يقف المشاهدون على مقربة شديدة من لوحاته، ليحجبوا عن أنفسهم كل شيء سوى عمله المتعالي. ومع ذلك، قليلون اقتربوا من مساحات «محطات الصليب» كما فعل ديفيد دياو، الذي لم يمرّ اللقاء عليه بوجدان مماثل. دياو، من معجبي نيومان القدامى، ساعد في نقل اللوحات عام 1966 عندما عرضت لأول مرة في متحف غوغنهايم، وعَمِل كعامل تركيب هناك لدرجة أنه التقى بنيومان أثناء العمل. بينما خضع النقاد لتبجيل هذه الأعمال كما لو أنها محمولة بدلالة مقدسة، تذكّر دياو أنه تعامل معها كأشياء على طريقة المنظّم داخل غرفة.

«لم أتعامل معها باعتبارها مقدسة، رغم أن ذلك ربما ما كان ليودّه»، قال دياو في حديث حديث. لفت نظره بدلًا من ذلك إلى سطوح نيومان المتواضعة، المبنية بطبقات من الزيت وباستخدام شريط لاصق لتحديد مواقع «الشقوق». «أحببت بساطة أسلوبه — لا تكلف فيه. إنه ببساطة ما ينبغي فعله.»

منذ 1989، واصل دياو فعل ما ينبغي فعله تجاه نيومان، مشيراً إليه في أعماله بإعجاب وسخرية معاً. في 1991، عندما عُرضت أعماله في معرض جماعي بصالة سيدني جاينيس في نيويورك، كتب: «ليت بارني ما زال موجوداً ليرى هذه الأعمال.»
عمل دياو لعام 1992 Barnett Newman: Paintings by Title & Size منح كل واحدة من 118 لوحة لنيومان مكانها في قائمة على خلفية حمراء نارية تذكرنا بالحُمرة الكثيفة لِـVir Heroicus Sublimis، وكأن اللوحة هنا مُفهرَسة كعنصر في قائمة جرد لا كتحفة. أما BN: Spine 2 (2013)، وهي لوحة أحادية بنفسجيّة رقيقة بخط أبيض شُعيري في المنتصف، فتوحي بأقرب ما تكون إلى نيومان الكلاسيكي، لكن «الشق» عند دياو ينبثق من طيّة غلاف كتاب — كتاب كتالوج معرض نيومان في غوغنهايم عام 1966، الذي كان غلافه بدوره بنفسجياً رائعاً.

كتب نيومان في ذلك الكتالوج: «لا يملك أحد إذناً ليولد. لا أحد يطلب أن يعيش. من يجرؤ على القول إن له إذناً أكثر من غيره؟» قد يفسر هذا التصريح سبب ظهور نسخة عام 2024 من كتاب عن أعمال دياو المرتبطة بنيومان، صدرت عن غاليري جرين نافتالي، بغلاف بنفسجي شبيه بغلاف كتالوج غوغنهايم، مع تغيير دقيق لكنه خبيث: اسم دياو حل محل اسم نيومان على الغلاف. إن كان نيومان قد حظي بتصريح ضمني من عالم الفن ليزين أسمه أغلفة الكتب، فبلا شك كان لدياو الحق في ذلك أيضا.

في يوم ربيعي مغيم استقبلني دياو في مرسمه بتركيا، المبنى الذي يعيش ويعمل فيه منذ 1974. دياو، الذي هاجر إلى نيويورك في 1955 بعد طفولة في الصين والقُدس — أقصد هونغ كونغ — كان يرتدي صندوقية قميص محمرة بالمهترئ تكشف عن قميص أبيض تحته. قلت له إن تدرج الأحمر والأبيض في زيه يذكرني بVir Heroicus Sublimis، فرد بلا مبالاة: «ليس بالضبط.»

«ليس بالضبط» كانت العبارة التي كررها دياو ست مرات أخرى في لقائنا، في حوار دائري يعاود فكرة النفي. أعمال دياو مشبعة بالإحالات — غالبا إلى لوحات لماليفيتش، روبرت ماذرويل، وبالطبع نيومان — لكنه عندما يستدعي مصادره يفعل ذلك من موقع التفكيك. يظهر تقديراً لتلك الشخصيات الأوروبية والأمريكية ثم يخفّض من شأنها برفق. «هو في جوهره مابعد الحداثي»، قال فيليب تيناري، الذي نسّق معرضاً استعادياً لدياو عام 2015 في مركز UCCA للفن المعاصر في بكين.

يمكن القول إن دياو يشطب على العظماء التاريخيين المقبولين — فعلٌ جسّده حرفياً في Synecdoche (1993)، مطبوعة استعار فيها مقالاً لِبِنجامين ب. د. بوشلوه عن جيرهارد ريختر نُشر في أكتوبر، ثم شطب باسم ريختر بالحبر الأحمر كما لو كان محرراً يعيد قراءة مخطوطة، وفي موضعه خطّ اسمه ليغرس نفسه داخل التاريخ المتمحور حول ريختر الذي صنعه بوشلوه.

بدأ ريختر باستخدام «السكويجي» (مسحتة) لتكوين لوحاته التجريدية في 1980 ويراه البعض رائدًا في هذا الإجراء. لكن دياو استعمل المسحتات منذ 1969 ولم يحظ بقدر كبير من الاعتراف بفضل ذلك. يدّعي دياو أيضاً أنه سبق صديقه الرسّام جاك ويتن في استخدام مسّحة (squeegee)، وأن ويتن صمّم جهازاً عام 1970 أسماه «المطور» لسحب الطلاء. وربما ريتشر شاهد أعمال دياو المبكرة بهذه التقنية في معرض بدوسلدورف عام 1973 الذي ضمّ الفنانين معاً؛ وفي أيِّ حال يُقرأ عمله «سينيكدوخ» بسهولة كعمل ثأري في سجلّ التاريخ الفنّي. دياو نفسه وصف العمل بأنه «تصحيح»، لكنه اعترف أيضاً بإحساس بالحرج تجاهه قائلاً: «واحدة من أغبى الأشياء التي فعلتها كانت صنع هذا العمل». (قد يختلف صديقه الفنان وليد رعد؛ فهو يملك طبعة من الطباعة.) عندما ضُغط عليه لأكثر، وصف القطعة بأنها «نوع من الفعل المَرِر»—مع إطراء مائل السخرية بأنها نُفِّذت على «مستوى عالٍ».

يقرأ  جامع أمريكي يقدم 300,000 يورو مقابل عمل فني للوران

لدى أعمال دياو نزعة حادة. في التسعينيات، التقى في Jeu de Paume بباريس بالمح-curator كاثرين ديفيد، التي كانت آنذاك تعمل على تنظيم دورة دوكومنتا 1997؛ وبحسب دياو، قالت له: «أنت لست فعلاً فنّاناً صينياً»، في إشارة إلى أنه صار معروفاً في الولايات المتحدة وبتالٍ فنّان أميركي بلا صلة واضحة بوطنه. ألهم هذا اللقاء لوحة دياو Pardon Me Your Chinoiserie Is Showing (1993)، التي تضمّ عبارة بالضبط—تلاعباً بعبارة «عفواً، يظهر شقّ ثوبك» لتدلّ على أن دلالات مخفية قد انكشفت—على خلفية بلون البيض. ديفيد لم تعلق علنياً على العمل، لكن كما أشار تيناري في كاتالوج استرجاعية دياو لدى UCCA، دوكومنتا التي أعدّتها ديفيد لم تضمَّ دياو. وبتوقيعٍ نقدي لِديناميكٍ مبني على جنس الأشخاص في الإشارة إلى ملابس داخلية نسائية، وصف تيناري اللوحة بأنها «قابلة لأن تُعدّ جنسياً».

ديفيد دياو.
الصورة: كريستوفر غارسيا فالي

لكن دياو واعٍ لذاته بطريقة تؤكّد أن أعماله تنبع من تجربته الشخصية—وأنها لا تتكلّم إلا باسمه. قبل ذلك بثلاث سنوات أنجز لوحة بعنوان Mean Things، حيث يقطَع أحادي اللون الأسود بنص بالكاد يُرى يقول: mean things i said about other artists. وتحتها لوحة رمادية بأحرف فينيل تقول: mean things other artists said about me. في عمله، يواجه دياو النار بالنار؛ يقاتل ليخترق قانون التاريخ الفنّي بأي وسيلة لازمت. كما عبّرت ميشيل جرابنر، التي ضمّت دياو إلى قسمها في بينالي ويتني 2014، بقولها: «هو، في الجوهر، يمنحنا تواريخ جديدة».

العبارة التي استعملها دياو لوصف لوحات نيومان، «matter of fact»، تنطبق بلا ريب على موقفه من فنّه. استوديوه الواسع يقع عبر القنطرة من شقّته المتواضعة، ويتنقل بين المكانين حين يحتاج إلى كتاب من مكتبته أو لقمة طعام من مطبخه. دياو طباخ شغوف، وظهر بوضوح في مقال لصحيفة نيويورك تايمز عام 1981 عن عادات غداء الفنانين، شمل وصفاته لكارباتشيو البقر وفوسيلي بالشمرة.

يعمل دياو منفرداً داخل الاستوديو، مُنجزاً عدداً من اللوحات بالتوازي. في مارس الماضي كان على طاولته عمل قيد التنفيذ من سلسلة تدور حول كرسي برلين لجيريت ريتفيلد، قطعة أثاث أيقونية من حركة De Stijl. تفصل لوحة دياو مستطيلات حادّة الحواف تطفو على خلفية زرقاء: «ببساطة فكّكت الكرسي واستعملت كل شكل كعنصر في اللوحة»، قال دياو. النتيجة بدت أشبه بتجريدية لماليفيتش. ولسبب اختيار الخلفية الزرقاء قال: «كنت أحاول فقط اختيار لون يروق لي». (العنوان العملي للعمل: أجزاء كرسي ريتفيلد في برلين تصنع تكوينة سبريماتية).

وُصفت أعمال دياو أحياناً بأنها «تجريد مفاهيمي» لأن قراءتها لا تَحْتَمِل الاكتفاء بالمقاربة الشكليّة فحسب. المفارقة أنه، رغم نقده العنيف لشقيّ من الشكليّة التي كانت حاسمة للحداثة، يفكّر دياو مليّاً في كيفية تطبيق الطلاء—وهي نزعة لا تُنسب عادة إلى من يعتبرون أنفسهم مفاهيميين في التجريد.

David Diao: Looking 1, 2000.
بإذن غرين نافتالي، نيويورك

يبدأ عمله بتحضير القماش بالغِسّو—«أساساً لدفن النسيج»—ثم يستعين بسكين الباليت بدل الفرشاة ليفرد الأكريليك، المادة سريعة الجفاف التي صُنِفت سابقاً على أنها دون المستوى. بعكس نيومان الذي كان يطبّق الطلاء حتى يبدو ناعماً، يترك دياو خلفياته غير متكافئة، مع إبقاء ضربات الفرشاة مرئية. «لا أريدها مصقولة»، قال. «أريدها واقعية وماديّة».

قادني إلى قماشة مارون تظهر عليها مساحات بيضاء حيث يكشف الغِسّو القماش؛ في مركزها مربع أبيض يحمل نصّاً ألفه نيومان عام 1951 مرفقاً بمعرض في غاليري بيتي بارسونز: «هناك ميل إلى النظر إلى اللوحات الكبيرة من مسافة بعيدة. اللوحات الكبيرة في هذا العرض مقصودة لأن تُرى من مسافة قريبة.» صغَّر دياو حجم النصّ لدرجة تستلزم الوقوف على بعد بضع بوصات لقراءته. عندما انحنيت لأقرأ الكلمات، ابتسم دياو وقال: «get a kick out of this»—وبالعربية تقريباً: انه متلذّذ بهذا.

صورة نينا لين الشهيرة لـ«ذا إراسيفلز» تضمّ 15 فنّاناً من التجريد الذين قاطعوا متحف المتروبوليتان عام 1950؛ 14 منهم رجال بيض. أمضى دياو وقتاً طويلاً يتأمّل هذه الصورة التي نُشرت أول مرة في مجلة Life عام 1951 والتي شاعت مصطلح التعبيرية التجريدية. قال دياو إن تلك الصورة ذات أهمية بالغة لأنها تكشف من يمتلك مكانة داخل تلك المجموعة. أشار إلى أن نيومان يظهر في المقدمة والوسط؛ فرغم أن لوحاته لم تحظَ بتقدير واسع، فقد كان معروفًا بكونه متحدثًا بارعًا وكاتبًا فصيحًا.

ركز دياو جلّ اهتمامه على الوحيدة الأنثى بين الـIrascibles، هدا ستيرن، التي تقع في أقصى الخلف، وتبدو أعمالها التجريدية كأبنيةٍ لا زالت قيد الإنشاء. ظلّ يتساءل عن سبب تهاون النقّاد تجاهها، حتى رسم عام 1993 عملاً بعنوان: ماذا حلّ بهدا ستيرن؟ قال إنه مولع بفكرة الهامش؛ أحد مفاهيم النظرية النقدية التي رسخت في ذهنه هي فكرة الملحق — ما لا يظهر في النصّ الرئيسي لكنه حاضر على أطرافه، مترصّدًا اللحظة ليصبح جزءًا مما تُناقشه.

يقرأ  جون تشين يدافع عن ستة طيور هاوائية مهددة بالانقراض بتفاصيل حية — كولوسال

تضع خلفيته خارج النصّ السائد لتاريخ الفن الغربي. وُلد عام 1943 في تشنغدو ونشأ في أسرة ميسورة في ما وصفه بـ«بيت فخم» يضج بسمات الحداثة، حتى احتوى ملعب تنس، خلافًا للبيوت المجاورة المزدانة بالكوبيات التقليدية. كان مسكنًا مريحًا، لكنه لم يدم طويلاً.

في عام 1949 اهتزت الصين بانقلاب الثورة الذي أسفر عن قيام جمهورية الصين الشعبية، وكان جده من جهة الأب جنرالًا سابقًا في الكومينتانغ، الحزب الخاسر في الحرب الأهلية. خوفًا من الانتقام هرب جده وعمّته إلى هونغ كونغ رفقة دياو، الذي حمل معه حقيبة واحدة فقط. «كنا محظوظين لأننا تمكّنّا من الصعود على متن طائرة لمرسلين نرويجين كانوا قد استأجروا طائرة لإجلاء مواطنيهم»، هكذا يروي. لم تصحب والدته وإخوته الرحلة؛ أما والده، كينيث كاي-إي دياو، فكان قد استقرّ في الولايات المتحدة بعد أن علِق هناك عقب نيله شهادة الدكتوراه في الهندسة الإنشائية من جامعة إلينوي (أربانا-شامبين). التحق به دياو في نيويورك عام 1955، وانتقل الى كوينز.

تلقّى تعليمه في مدرسة لوتيرانية للبنين في مقاطعة ويستشستر، ثم التحق بكلية كينون في أوهايو. يقول إن دخوله كان مبدئيًا كطالب تمهيدي للطب لإرضاء والده، لكنه أخفق في سنته الأولى في مقررات الكيمياء والرياضيات حتى كاد يرسب، فأنقذته آنذاك كلية الفلسفة. درس التيارات العقلانية والتجريبية قبل أن يشارك في ندوة عن لودفيغ فيتغنشتاين، الذي علّمه أن المنظور الذي تنظر به يغيّر ما تراه: بنظرة واحدة يظهر الشيء على نحو، وبلمحة أخرى تبدو الصورة مختلفة.

عاد إلى نيويورك في 1964 ليعيش بمفرده. ولتأمين إيجار شقته في الطابق الخامس، الذي كان يبلغ 43 دولارًا شهريًا، عمل في معرض كوتز كعامل تجهيز وتنظيف حتى عام 1966، العام الذي توفي فيه هانس هوفمان وأُغلق فيه المعرض. ثم عمل في متحف غوغنهايم وشركة ريتشارد إل. فيغن، وكل ذلك بينما بدأ سرًا بصياغة مشروعه الفني الخاص.

بدأ في 1966 بلوحات تذكّر بأسلوب فرانك ستيلا، ثم انتقل إلى أعمال الصبّ والتخلّل المستوحاة من كينيث نولاند وموريس لويس. شيئًا فشيئًا لفت الأنظار: شارك في الدورة السنوية لمتحف ويتني المخصّصة للرسم عام 1969 وعرض أعماله في معرض بولا كوبر عام 1970. أتاح له الانتقال إلى مساحات أوسع تكبير قماشه، وبعض اللوحات أنجزها على الأرض على غرار جاكسون بولوك.

ابتكر لوحات المسح (squeegee) ثم اتجه إلى استخدام أداة أكبر: أنابيب كرتونية ملقاة في الشارع، كان يمررها عبر الطلاء الرطب في قسمين من مركز اللوحة. بدت هذه الأعمال ككتب مفتوحة، فسماها بعناوين مثل «ثروة الأمم» — خطوة منافية للعادة في زمن ترك فيه كثير من الفنانين أعمالهم بلا عنوان لتفادي ربطها بالعالم الخارجي. بدا دياو وكأنه يؤكد أن لوحاته مرتبطة بالثقافة حتى حين لا تكون تصويرية. صار مهتمًا بكيف يمكن للغة أن تلعب دورًا في أي مضمون بصري أو حتى في العاطفة، واستمرّ في هذا الاتجاه في مجموعة من التجريدات ذات الحواف الحادة التي أطلق عليها أسماء أفلام جان-لوك غودار (Made in U.S.A.) ويوسيف فون شتيرنبرغ (المغرب).

في عام 1979، وبعد أن صار بإمكان الأميركيين زيارة الصين كسياح إثر انفراج دبلوماسي، عاد دياو إلى وطنه للمرة الأولى منذ ثلاثين عامًا. وجد عائلته تسكن ما وصفه بـ«كوخ»، بأرضية ترابية وبدون مرافق صحية. شعر بصدمة؛ لم يكتب إلى والدته لأن طلاقة لغته الصينية تدهورت أثناء الغربة، ومع أن والده كان يرسل أموالًا ويبقي على تواصل، لم تعد العائلة غنية. «البلد كان فقيرًا للغاية، وكانت عائلتي لا تختلف عن أهل تشنغدو العاديين»، قال دياو. صادف هذا اللقاء استهلال فترة ابتعادٍ عن ممارسة الفن. «أظن أن هناك قدرًا هائلًا من ذنب الناجين»، اعترف. فكر قائلاً: «عائلتي المسكينة تكابد ما لا يُحتمل، بينما أتمتع في أمريكا برفاهية الحرية والقدرة على أن أفعل ما أشاء.» ثم بدأ يتيه فعلًا، متنقلاً بين مدن وثقافات؛ أمضى سنة في باريس يطّلع فيها على النظرية النقدية الفرنسية، وعاد إلى نيويورك أخيرًا عام 1984. أثناء نزهة في الجادة الخامسة صادف ملصقًا لدعوة احتجاجية مؤيِّدة للقضية الفلسطينية، فقرر أن يرسم علم فلسطين، مضيفًا إليه تركيبًا يستدعي رسمًا سوبريمافيًا لإيليا تشاشنيك يظهر مثلثًا مقلوبًا.

قال دياو: «لم أكن أفكر في التحرير الفلسطيني بشكل مباشر»، لكنه أقر بأنه «قد يتشارك بعض الغضب» الذي عبّر عنه المتظاهرون. عيّن للعمل عنوان On Our Land (1984): كان تساؤلاً عمّا يعنيه «أرضنا» — هل هي أرض السوبريما티زم والفن الرفيع، أم أرض شعبٍ مُهان ومُستَضعف؟ كان هذا العمل نقطة تحوّل في مسيرته: أعاد إليه الدافع للّوحة فلم يتوقف عن الرسم منذ ذلك الحين.

«فكرة التهجير، سواء في فلسطين أو البوسنة أو السودان، واحدة» صرح دياو لمجلة Art Asia Pacific عام 2008. «يظن الناس أنها حالة مؤقتة لكنّها تستمر طوال العمر.» قد يفسر ذلك ارتباط أعماله الطويل بالأرض الأم: الصين، حيث حصدت لوحاته اعترافًا مؤسسيًا أكثر مما حصدت في الولايات المتحدة.

يقرأ  لانترن تعيد صياغة مفهوم «السفر المستدام» في أوروبا من واجب إلى رغبة

ظلّت إيماءات دياو إلى مسقط رأسه غامضة إلى حدٍّ ما حتى عام 2008، حين نظم الرسّام غانغ جاو أول معرض لدياو في الصين في Courtyard Gallery ببيجين. قدم المعرض سلسلة أعمال عُرِفت باسم «بيت دا هين لي» (2007–08)، رسم فيها دياو جداول زمنية ونصوصًا ومخططات أرضية ورسومًا معمارية ومخططات تُنقِّب في تاريخ بيت عائلة دياو في تشينغدو، الذي هُدّم عام 1949 ثم أُعيد بناؤه كمقر لجريدة Sichuan Daily الحكومية. ترصد السلسلة كيف تمحيّ الحياة الشخصية أمام مسار «التقدّم» الوطني. في لوحة مثل Red Star Over Tennis Court (2008) لا يظهر إلا محيط الملعب الذي كان قريبًا من بيت العائلة، مرسومًا بقدر من الاختزال يجعله قابلاً ليُفهم كتجريب هندسي حداثي، فيما يكشف العلم الصيني وعنوان العمل أن هذا التجريد ليس فراغًا شكليًا خالصًا.

لاقى «بيت دا هين لي» إشادة منذ عرضه الأول، ثم عرضته لاحقًا صالة Postmasters في نيويورك، التي عرضت لها أغلب معارضه الفردية في الثمانينيات والتسعينيات والألفينات، ودخلت بعض أعمال السلسلة إلى مجموعات متحف M+ في هونغ كونغ. لكن دياو امتنع عن تفسير سبب الاستقبال الحار في الصين، مكتفيًا بالقول: «الناس فهموا البُعد العاطفي منه.» أما جاو فعبّر عن أن النقاد والفنانين تجاوبوا لأن السلسلة أظهرت صراع دياو مع هويته كصيني يعيش خارح وطنه: «في نهاية المطاف عليك أن تنظُر إلى نفسك في المرآة»، قال جاو، «تقول: حسناً، نعم، أنا في الشتات. عليك أن تعترف بهذه الحقيقة.»

كان دياو قد ألمّ بهذه الحقيقة من قبل، وإن نادرًا بصورة مباشرة. لوحة عام 1974 تحمل ذات عنوان فيلم نواري لكارول ريد (Odd Man Out) وتوحي بوضوح بوضعه كغريب. لكن بعض مشاهديها ربما لم يستشفّوا ذلك من الصورة وحدها، التي تبدو كأي تجريد هندسي صارم من عصرها. في التسعينيات ظهرت أعمال أكثر وضوحًا عن الاغتراب: سلسلة عام 1992 ترجمت مصطلح «الخطر الأصفر» إلى لغات متعددة — من الهولندية إلى الصينية — لتشير إلى أن العنصرية المعادية لآسيا قد تتوطن في شتى الأمكنة، حتى في الصين نفسها. تلك الأعمال لم تُعرض على نطاق واسع.

مع ذلك، ظل دياو يصرّ على أن فنه كان دومًا تعليقًا على هويته. «آمل أن تكون هذه الأشياء واضحة لأي من يتابع بانتباه» قال. وبعض المتابعين في الولايات المتحدة فعلوا ذلك: أُدرجت Odd Man Out ضمن معرض «التركات: حركات الفن الآسيوي‑الأمريكي في مدينة نيويورك» عام 2024 في مساحة 80WSE بجامعة نيويورك، وعرضت صالة غرين نافتالي في 2025 لوحات «الخطر الأصفر» إلى جانب أعمال تستدعي ماليفيتش وبولك وغيرهم.

حتى التسعينيات، قلّما تطرّق النقّاد إلى خلفية دياو الصينية، وركّزوا في الغالب على إشاراته إلى الحداثيين الأمريكيين والأوروبيين. وحتى حين جعل علاقته بالصين عنصرًا أكثر تصريحًا في فنه، بدا واضحًا أن بعض المراجعين الأمريكيين يجدون صعوبة في استيعاب ذلك. في مراجعة إيجابية لأرتفورم عام 1995 علق ديفيد ريمنيلّي على لوحة يدّعي دياو أنها دعوة لمسح في متحف موما، حيث اسمه مرسوم مائلاً ليكوّن زوجيْن من العيون الشِقّية؛ اعترف ريمنيلّي بجهله بسيرته، ثم كتب أن فن دياو «المُتشدّق بالغباء» يتبنّى «وقفة ذكية متحسِّرة ومحرومة.» هل تشرح ردود كهذه سبب غياب معرض استعراضي لدياو في الولايات المتحدة؟ تكهّن تيناري قائلاً إن «العنصرية جزء من الأمر، لكن ليست كلّه. لقد كان مُتعمدًا في كونه خارج الموضة في لحظات مختلفة، رغم أن أعماله تبدو الآن متقدمة على عصرها.»

دياو، من جهته، لم ينتظر الاعتراف. في 2013 أنجز لوحة تُعلن عن «معرض استعراضي زائف» في موما — المتحف لم يشتَرِ لوحةً له إلا بعد 11 عامًا — وما زال مستمرًا في إنتاج أعمال تضعه داخل تاريخ فني غالبًا ما يستبعده. «جزء كبير من عملي ينصبّ على محاولتي أن أكتب نفسي في تاريخ الرسم الحديث، لأنهم لا يتركونني أن أصل إليه»، قال دياو.

من بين أعماله عمل بعنوان «النظرة الأولى» (2000)، طبع عليه بالشاشة الحريرية صورتين: صورة تُظهر بارنيت نيومان وامرأة غير معرّفة وهما يحدقان في لوحة نيومان الشاسعة، وصورة أخرى تُظهر دياو وهو يحدق بإعجاب في إحدى إبداعاته — او ابداعاتِه. كما كتب المؤرخ الفني مايكل كورّيس، فإن اللوحة توحي بـ«حاجة دياو لتجاوُز أرض الفن الحديث كي يستطيع الاستمرار في رواية قصص أخرى عن الفن الحديث». هنا قد يُنظر إلى دياو على أنه يقلّد نيومان — وفي معنى ما حتى أنه يحتلّ مكانه.

لكن دياو بدا وكأنه لم يبذل تفكيراً عميقاً حين طبَع الصورة الأخيرة؛ فقد قال إنها التُقطت «عن طريق الصدفة» في مرسمه. ابتسم ثم أضاف: «أريد للناس أن يضحكوا، وألا يأخذوا الأمر بجدّية بالمرة».

أضف تعليق