يحب الناس اللغز، وربما لهذا السبب بحث عشّاق الفن على مدى أجيال عن هوية الشخصية المجهولة في تحفة يوهانس فيرمير «الفتاة ذات القرط اللؤلؤي» (1665–1667). وضعها الغامض — تنظر إلينا وهي ملتفة عبر كتفها —، وزخرفتها المسماة، وغطاء رأسها الغريب (العمامة الزرقاء) أثارت أسئلة بلا أجوبة واضحة.
لم يمنع ذلك الناس من التكهن، فثمة مؤلفات لا حصر لها، ورواية تحولت إلى فيلم عام 2003 حيث جسّدت سكارليت جوهانسن دور خادمة في بيت فيرمير، وهي الطبقة التي تُعتبر الأرجح كعارضة له. وتحوم نظريات متنافسة تفترض أن النموذج كان ابنته ماريا، التي يُعتقد أنها كانت مساعدته وربما الكاتبة الحقيقية لقطع نسبت إليه، مثل «الفتاة ذات القبعة الحمراء» و«الفتاة ذات الناي».
مقالات ذات صلة
غير أن هذا كله لا يُغير حقيقة أن «الفتاة ذات القرط اللؤلؤي» ليست بورتريه تقليديًا، بل عمل يصنّف في الفن الهولندي في القرن السابع عشر كـtronie — أي تصوير للرأس بصفة رسمية ومجهولة الهوية يخدم وظيفة تشبه طقوس الطبيعة الصامتة، لا يختلف جوهريًا عن وعاء فواكه أو باقة أزهار.
ومع ذلك، تتجاوز اللوحة مجرد دراسة؛ فهي العمل الأشهر لفيرمير ضمن إنتاج محدود نعرف منه 34 لوحة مؤكدة، وإن كان قد يكون أنجز ما يصل إلى خمسين. غالبًا ما عمل فيرمير على قماش صغير، وتبلغ أبعاد «الفتاة ذات القرط اللؤلؤي» نحو 46.4 × 38.7 سم، فحجم لوحاته الحميمة وندرتها أضفى عليه هالة أسطورية، رغم أن ذلك لم يكن الحال دائمًا.
في زمنه حظي فيرمير بالاحترام والنجاح نسبياً، لكن بعد وفاته طوى النسيان اسمه لحوالَي مئتي سنة؛ ربما لأن سمعته اقتصرت على مدينته ديلفت. كما أن الركود الاقتصادي الذي أعقب غزو لويس الرابع عشر للاقتصاد الهولندي عام 1672 جفّف سوق لوحاته واللوحات التي كان يبيعها عبر نشاطه التجاري في الفن، الذي ورثه عن أبيه. اضطر فيرمير للاقتراض للبقاء، وقد يكون الضيق المالي هذا ساهم في موته المبكر عن 43 عامًا.
لم يُستعدَ لاكتشافه إلا في منتصف القرن التاسع عشر، ومن ثم بدأت مسيرته نحو المكانة الأيقونية التي يتمتع بها اليوم.
وُلد فيرمير في أسرة من روّاد الأعمال؛ وكان جَدُّه عاملاً بالمعادن ومُزاولاً للتزييف، بينما كان والده في الأصل تاجر حرير. تزوج فيرمير من امرأة كاثوليكية ثرية فدخل في المسيحية ظاهريًا ليتقبّلها حماته، لكن تحوله الديني بدا صادقًا، وهو ما انعكس في لوحته «استعارة الإيمان» (1670–1672).
في عام 1653 انضم إلى نقابة الرسامين، وهو ما يعكس اقتصاد الفن خلال العصر الذهبي الهولندي؛ فقد ارتبطت المبيعات بفئة التجار الذين فضلوا الطبيعة الصامتة والمناظر والبورتريهات والمشاهد الداخلية كانعكاسات لثرواتهم. وقد اختلفت أهدافهم بوضوح مع المقاصد اللاهوتية والملكية لجهات الترسيم في أماكن أخرى من أوروبا. وكان أبرز داعميه وارث مصنع جعة يُدعى بيتر فان رويفن، الذي حافظ مع زوجته ماريا دي كنويت على استمرار عمله.
لا نملك معلومات وافية عن كيفية تعلّمه للصنعة؛ يذهب بعض الباحثين إلى أنه تدرب عند فنان آخر، بينما يرى آخرون أنه تعلم بنفسه، مستلهماً من مدرستين هولنديتين: مدرسة لايدن ذات الطابع الطبيعي المفصّل للغاية، ومجموعة تلتزم بتعاليم كارفاجيو في أوترخت. ويمكن رؤية جوانب من كلتي المدرستين في ممارسته.
بحلول منتصف خمسينيات القرن السابع عشر بدأ فيرمير إنتاج أولى تركيباته المعروفة. من بينها «المتورط» (The Procuress، 1656) التي تظهر فيها بائعة هوى مُتقرّبة من سائقٍ مُغرٍ، وعلى اليسار وجه لاذع يُعتقد أنه فيرمير نفسه — وهذه اللمحة، ومع ظهوره من الظهر في «فنّ الرسم» (1666–1668)، تمثلاني الذات الوحيدان المتبقيان منه. وعلى الرغم من سمعة المرأة في «المتورط»، عومِلت بعين تعاطف؛ ففي أعمال فيرمير تتكرر صور النساء ليس كأغراض للشهوة بل كشخصيات ذات فاعلية.
مفتاح فهم «الفتاة ذات القرط اللؤلؤي» يكمن في كيف قلبت الموازين على النظرة الذكورية: فهي، مطرَّزة على خلفية داكنة خالية من المقاطعة، هي الموجهة للنظرات. شفتاها اللامعتان مفترقتان قليلًا ليُبديان الأسنان وربما ومضة خفيفة من اللسان، ما يُشعر المشاهد أنها واقفة على حافة بين التحدي والضعف.
ورغم ذلك، تظل البؤرة الحقيقية الزينة المتدلّية من أذنها؛ اللآلئ تتكرر في لوحات فيرمير، غير أن القرط في هذه اللوحة ضخم بشكل غير اعتيادي، فظنّ بعضهم أنه اصطناعي. وبراعة فيرمير تكمن في أنه أعطى هذا القرط بعدًا ثلاثيًّا بضربةين تشبهان الفاصلة: واحدة رمادية في الأسفل لتعكس طوق الياقة البارز فوق ثوبها الذهبي، ودفعة سميكة من الأبيض في الأعلى لتصوغ انعكاسًا مضيئًا، ربما من نافذة غير مرئية؛ وأغفل أي أثر لخطاف، فوُهم أن القرط يطفو على رقبتها.
كما غمَّق فيرمير تفاصيل اللوحة بضبابية بالكاد تُدرَك، فبدت كصورة فوتوغرافية خارجة عن التركيز. وهذا يقود إلى لغز آخر حوله: هل استعمل جهاز الغرفة المظلمة (camera obscura)، جهازٌ مزوّد بعدسة يُسقط صورة ما أمامه على سطح؟ الدليل الموضوعي يشمل وجود صناعة لصقل العدسات في ديلفت ووجود أنطوني فان ليوينهوك مخترع المجهر، وربما كان معارفًا لفيرمير. واستمرار هذا السؤال يعزى جزئيًا إلى فكرة أن استعمال الغرفة المظلمة قد يحوّل فيرمير إلى نوع من الحداثيين الأوائل.
لكن سواء استخدمها أم لا، فالأمر في المحصلة ليس جوهريًا: القوة الحقيقية لـ«الفتاة ذات القرط اللؤلؤي» تكمن في تعبير موضوعها — مثير لكنه يفيض أيضًا بشوق إنساني يتخطى هوّة الزمن.