سوزان دوشامب — أم الدادا: جعلت العبث يتلألأ ويتوهّج

ولِدت سوزان دوشامب في أسرة فنية بشمال فرنسا عام 1889، وتعرّضت منذ نعومة أظفارها لحركات الطليعة في أوائل القرن العشرين، لا سيما التكعيبية والدادا. ومع ذلك طورت ممارسة تصويرية شديدة الخصوصية تعكس حسّها الفني الخاص. معرض جديد يمنح دوشامب، التي ظلّت في كثير من الأحيان في ظل إخوتها مارسيل دوشامب، ريمون دوشامب-فيّون، وجاك فيلون، سردها الخاص. معرض «سوزان دوشامب: عرض استعادي»، الذي عُرض مؤخراً في كونستهاوس زيورخ ويتوجّه الى شيرن كونستهاله فرانكفورت، يندرج ضمن اتجاه متزايد لاحتفاء بعروض أحادية الفنانات اللاتي لم ينلن تمثيلاً كافياً.

مق works الدادا عند دوشامب ستكون السبب الأساسي لزيارة معظم المشاهدين. بدأ هذا التيار العبثي في زيورخ لكنه انتشر بسرعة في أوروبا الممزقة جراء فظائع الحرب العالمية الأولى، حيث بدا أن العقل والنظام لم يعدا ذي معنى. شاركت دوشامب في الموجة الباريسية، وكانت مساهماتها تنحو صوب الحريات التي منحها التيار للفنانين. قاد الدادائيون التحول بعيداً عن ادعاءات الفنون الجميلة واحتضنوا الكولاج والمونتاج الفوتوغرافي والبريكولاج وتقنيات أخرى تستعين بمواد الحياة اليومية. بالنسبة إلى دوشامب كانت هذه المواد براقة إلى حدٍّ خاص: طلاء ذهبي، ورق قصدير فضي، تروس ساعات نحاسية، وحبات زجاجية تمنح رسومها الميكانيكية لمسة بدايات الآرت ديكو. لوحة «إشعاع اثنين معزولين» (1916–1920) تتخذ شكل شبكة ذو حواف حادة مذهبّة حقلاً لرسم العلاقات بين الأشكال الهندسية. الشكلان المشار إليهما في العنوان، المعالجان ببُعد ثلاثي عبر الحبات وقطع البلاستيك، مرتبطان ومنفصلان في آن واحد بخيط ملفوف يخلق تأثير جذب-تباعد يخفف منه بخفة خط بنفسجي رقيق متمايل على اليمين.

لفت رسام معاصر، إيمي سيلمان، في كتالوج المعرض لوحة مفوَّضة جديدة استلهَمت ديناميكيات الأشكال هذه لصياغة رسوم رقمية تجمع بين أشكال إيمائية وطبقات نصية لتأكيد أنّ العلامة التجريدية عند دوشامب كانت مرتبطة بمشاعر إنسانية عميقة مثل الحب والفرح والمجد. كانت هذه المشاعر نادرة الظهور في فترة ما بعد الحرب التي عملت فيها دوشامب، وفي أعمال أخرى تطرح تساؤلات حادة عن مكان الإنسان في عالم صناعي، مثل رسمَي «مصنع أفكاري» (1920) و«ورشة الفرح» (1920). مستغلة فراغ الصفحة ببذخ، تطفو أشكال معمارية حداثية نمطية مقابل الإشارات النصية إلى الفكر والعاطفة. وبرغم أن ذلك قد يُقْرَأُ على نحو ساخر يُشير إلى فقدان الذات أمام الصناعة الحديثة، فقد وصفت دوشامب فترة الدادا بأنها تحوّل إلى «اللوحة الذاتية»، مما يوحي بأنها وجدت وسيلة لإدخال ذاتها في هذه اللغة الفنية الناشئة.

يقرأ  أم تترقب نتائج تحليل الحمض النووي لرفات يُشتبه في ارتباطها بطائفة التجويع في كينيا

وعلى الرغم من تأكيد الدادا على الوسائط المختلطة، ظَلّت اللوحة بالنسبة إلى دوشامب وسيلة تمثيلية لا نهائية القابلية. يتجلّى هذا بوضوح في تحويلها لصورة عمل أخيها مارسيل الذي سمّاه «الريدي-ميد التعيس» (1920). عندما تزوّجت دوشامب الفنان جان كرُوتّي، أهدى مارسيل للعروسين «ريدي-ميد»: تعليمات لشراء كتاب هندسة وتعليقه بخيط على شرفة، وترك الريح تتلاعَب بصفحاته. ورغم أن الريح دمّرت العمل في نهاية المطاف، بقيت صورة فوتوغرافية، وحولت دوشامب تلك الصورة إلى لوحة زيتية. كِسرٌ من ورق أزرق جليدي يجلس برقة مقابل قضبان الشرفة المعدنية الصلبة. خيوط مرسوما مرسومة تذكّر الناظر بهشاشة اللفتة الأصلية، فالتصوير أكثر بقاءً من الشيء نفسه. ماذا يعني أن تُصوّر ريدي-ميد، عمل فني يقلب الظهر على العمل الحرفي للطلاء؟ إن لم يكن هناك ما يبرهن غير ذلك، فهو يُظهر أن دوشامب لم تكن راغبة في البقاء في ظل أخيها، بل أعادت اقتباس عمله لأهدافها الخاصة.

تستحضر عدة أعمال دادائية لدي سوزان دوشامب، بما في ذلك «إشعاع اثنين معزولين»، مفاهيم الوحدة والعزلة. ورغم دائرة صاخبة من الأصدقاء المتعاونين مثل كرُوتّي وفرانسيس بيكابيا، عادت في 1922 إلى ممارسة أكثر انفرادية للّوحة التمثيلية. بنمط يمكن وصفه بـ«البدائي» لصراحته، وانحراف المنظور، واللعب بالمقاييس، أعادت سكان عالمها الفني إلى الحياة: موسيقيون، عرائس، متجولون، أطفال، وحتى جنة غنّاء استحوذت فيها حواء على المركز بينما يقف آدم مُتحرجاً خلفها. منفَّذة بألوان جريئة وضربات بسيطة، تستمر اللوحات في احتضان خفة الدادا دون قسوتها الساخرة والباردة غالباً. النقد—بما في ذلك سخرية الدادائيين من الحرس القديم—لا يوصلك إلى أبعد من ذلك. توحي أعمال دوشامب اللاحقة بأنه بعد أن تنقض على شيء وتدمره، يلزمك أن تبتني شيئاً لنفسك. يختم العرض برسم تخطيطي نقشت عليه دوشامب حكمة: «اعمل و… ابتسم!»

يقرأ  تصويت متقارب في النرويج: البقاء مع حزب العمال أم التحول إلى اليمين؟

أضف تعليق