نانوكوزموس: رحلات في فضاء الإلكترون هو كتاب بصري يأخذ القارئ إلى عوالم لا تُرى بالعين المجردة، حيث يجمّع مايكل بنسون صورًا بصرية لميكروكونيات بعيدة عن إدراكنا اليومي. اعتمد المؤلف في هذا المشروع الطويل الأمد على تقنيات مجهر إلكتروني ماسح عالية الدقة التي بدأ العمل بها خلال ارتباطه بمعهد ماساتشوستس للتقنية، ثم أكمل مسحاته في المتحف الكندي للطبيعة، ليحيل بيانات المسح إلى لوحات فوتوغرافية مركبة تعبّر عن حقول جديدة من التصوير والفن.
العمل، الصادر عن دار أبراهمز، يستكمل مسيرة بنسون التي تضمنت مؤلفات سابقة مثل Otherworlds وPlanetfall وCosmigraphics، حيث اعتاد أن يبني صورًا فضائية من جمع وتوليف بيانات خام إلى صور مصقولة تحمل حسًّا فنيًا وتاريخيًا في آنٍ معًا. هنا يكرر المناهج نفسها، لكن داخل مسافات ميكرونية: قشور وحبيبات وكائنات وحيدة الخلية تُفكك عوالم داخلية وتُعاد تركيبها بصريًا.
منهجية التنفيذ
الصور في الكتاب ليست لقطاتٍ مفردة عشوائية؛ معظمها فسيفساء مركبة من مئات الإطارات المأخوذة عبر فترات زمنية متفاوتة ثم تم تركيبها يدويًا رقميًا. الغاية ليست العلم بمعناه التجريبي فحسب، بل صناعة لحظة بصرية تُثير الخشوع والدهشة؛ استخدام أدوات البحث العلمي لصناعة تجربة جمالية يضع هذه الأعمال على مفترق الفن والتوثيق العلمي.
حدود الاستكشاف
بنسون يعرّف “الحدود” بأنها شريط فاصل بين ما نعرفه أو نعتقد أننا نعرفه وما لا نعرفه. تلك المساحة الغامضة، عادةً ما تختص بها المختبرات والعلماء، يؤسس الفنان لها كميدان بصري يستحق الزيارة والإضاءة الفنية.
نماذج مختارة وتعليقات فنية
قمة قمرية
صورة لقطعة زجاج صدمية من سطح القمر — عيّنتها له أمينة عينات أبولو في هيوستن — تبدو كمنظومة جبلية رغم أنها لا تتجاوز المليمتر الواحد. الزجاج الصدمي تشكل بعد اصطدام نيزك بالقمر قبل مئات الملايين من السنين، ومع ذلك تُظهر بنية فركتالية تُعيد تأكيد تشابهات الشكل عبر مقاييس مختلفة: من الميكرون الى الفلك.
راديولاريا Clathrosphaera arachnoides
الراديولاريات كائنات أحادية الخلية صنعت لأذهان الفنانين والعلماء مصدر إلهام منذ أعمال إرنست هكل. قشورها من زجاج السيليكا المستخلص من مياه البحر عبر عملية تحوير حيوية (bio-mineralization). بالنسبة لبنسون، هذه القشور تبدو كتجميد لحركة ذرية أو كدوامة بروتونات حول نواة؛ جمالها يدفعه لأن يتعامل معها كصورة فوتوغرافية ذات حضور استثنائي بغض النظر عن دلالتها العلمية.
راديولاريا Haliomma pachydermum
تعقيد قشور الراديولاريات يجعل بنسون يعيد التفكير في التراتبية المعرفية بين أحادية ومتعددة الخلايا؛ بعد مليارات السنين من التطور تتمكن خلية واحدة من إنتاج بنى هندسية دقيقة، شبكية ومتداخلة، غالبًا على شكل كرات متعششة حول كرة مركزية تحتوي على النواة والسيتوبلازم. وعندما تموت الخلايا، تتساقط الأصداف نحو قاع البحر لتكوّن على مدى ملايين السنين صخورًا غنية بالسيليكا استخدمتها البشرية في أدوات العصر الحجري.
دينوفلاجيلات Protoperidinium Michaelis
الدينوفلاجيلات، ذات الأَلواح الخلوية المصنوعة من السليلوز، تبدو أقرب إلى صناعات ورقية ميكانيكية: مجذّفات عند القطبين ووِلاة استوائية تدور الكائن وتحركه كقمر صناعي صغير. بعض الأنواع تنتج توهجًا بيو-لومينيسنتي يظهر في ليات القوارب ليلاً؛ منظر ساحر تتحول صورته إلى متخيّل بصري في عمل بنسون.
نبات مزهر مع حشرة المن
واحدة من أطول التركيبات التي أنجزها بنسون: فسيفساء من 300–400 إطار لتكوين صورة بعرض يقارب السنتيمتر، وهي أكبر المقاييس المستهدفة في المشروع. المشهد يردّ إلى تقاليد اللوحات الساكنة الهولندية في القرن السابع عشر حيث تُعرض نظم إيكولوجية مصغرة. حشرة المن هنا عنصر سردي ضمن بيئتها، وقد استلهم بنسون مشهدًا شبيهًا بتكوينات هنري روسو التي تطوِّر علاقة الكائن بالمحيط النباتي حوله.
خنافس وذوات خرطوم
من الخنافس المدهشة في الكتاب خنفساء “ليخريوبس” التي توحي بوجهٍ عينٍ واحد عملاق، وخنفساء الروث Onthophagus من بابوا غينيا الجديدة ذات ملامح درعية شبيهة بأقنعة الساموراي؛ تلك الخنافس، مع مظهرها المدرع، تقوم بدور حيوي في تدوير مخلفات الثدييات وتجسيد ارتباط الإنسان بالمفاهيم الرمزية لدى الثقافات القديمة، كما في مصر القديمة حيث رمُزت إلى حركة الشمس والدورة الكونية.
أجنحة يونغية: زوجية اليليم Erythemis simplicicollis
أجنحة اليعسوب تكشف عن براعة تصميم طبيعي مذهل: أخف وزناً من أن تكون سميكة، وأقوى من أن تُكسر، متقنة البناء لتحقق وتيرة رفرفة عالية. تجميع هذه الأجزاء تطلب أسابيع من التصوير والتركيب الرقمي لاحتواء عمق الميدان والطبقات الدقيقة التي تعطي الأجنحة جودتها البصرية؛ ثمة إحساس بهيكل زجاجي فيكتوري لكن بطبيعة عضوية بحتة.
خلاصة
نانوكوزموس ليس مجرد كتاب علوم أو مجرد ألبوم صور مجهرية؛ إنه محاولة لتمديد تاريخ التصوير وتشابكاته مع تقنيات البحث، لتوفير مادة بصرية ذات قيمة جمالية وتاريخية. بنسون لا يسعى إلى تقديم حقائق تجريبية جديدة بالمعنى التقليدي بقدر سعيه إلى خلق رؤية ــ رؤية تجعل ما هو غير مرئي يرتدي حضورًا تصويريًا يُحاور تاريخ الفن والتصوير العلمي على حدٍ سواء.