عرض استثنائي — مرة في كل جيل هنري روسّو في مؤسسة بارنز

هنري روشو، المولود عام 1844، يحـتـوِي عمله على صبرٍ استثنائي يتجلّى بوضوح في المعروضات الكبرى بمؤسسة بارنز في فيلادلفيا. لوحته “اللقاء في الغابة” (1889) تكرّس عناية متناهية بأوراق الشجر المتراصّة، طبقاتٌ من الأوراق تكسو سطح القماش حتى تكاد تُخفي الزوجين المنبوذين في مركزها. إنه عمل لفنان تعلّم كيف يُقدّر زمن الانتظار؛ فقد قضى روسو أكثر من عقدين عاملاً عند بوابة جمركية في باريس، ومن هنا اكتسب لقبه المعروف “لو دوانيه”.

إنّ إنتاجه لا يختزل إلى مجرد تسجيل بصري يومي؛ بل هو تذكير بأن الاعتياد على منظَر ما قد يجعلنا نراه أقلّ لا أكثر. اعتمد روسو ممارسة تخيّلية غالباً ما وُصفت بالـ”ساذجة”، لكن معرض “أسرار رسّام” يبرأه من تلك الصورة المبسطة. هذا المعرض ثمرة تعاون بين مؤسسة بارنز ومتحف الأورانجري في باريس، ويستعير أعمالاً من مجموعة التاجر الباريسي بول غيوم، الذي باع لآلبرت بارنز عدداً من لوحات روسو، فصارت هذه القطع إعادة جمع لأعمال مرت عبر أيادٍ واحدة سابقاً. كما تضمّ العطاءات لوحة “الغجرية النائمة” (1897) من متحف الفن الحديث، وبتقاطع هذه الأعمال الستين تقريباً يظهر روسو كرجل أعمال بارع استجاب لتقلبات السوق الفنية.

على الرغم من كونه متعلّماً ذاتياً، حصل روسو على تصريح للنسخ من لوحات متحف اللوفر، مصدر تعليمٍ مهمّ للعديد من فنان القرن التاسع عشر؛ كما تابع أخبار عصره وأدرجها في لوحاته. لوحة مثل “ممثلو القوى الأجنبية يأتون لتحيّة الجمهورية كعلامة على السلام” (1907)، التي اشتراها لاحقاً بيكاسو، كانت تأويلاً جمهورياً لمؤتمر لاهاي الثاني؛ جمع فيها روسو صور زعماء حضروا المؤتمر مع رمز الجمهورية ماريان ونصب تذكاري للمثقّف الإنساني إتيان دوليه، كل ذلك في مدينة مرفوعة عليها الأعلام، ليكوّن فسيفساء مركّبة من الدلالات تُظهر وعيه السياسي والاجتماعي. أما لوحته السريالية “لاعِبُو كرة القدم” (1908) فكانت ردّ فعل على أداءٍ فرنسيٍ لافت في مواجهة إنجلترا؛ لاعبو روسو يبدو عليهم الرقص، حاضرون في زمنهم وموشّحون أيضاً بشيء من التعليق المتعالي على اللحظة.

يقرأ  ابنة ديفيد لينش تدعو الفنانين لشراء مجمع والدها في لوس أنجلوس

أعاد روسو صياغة عناصر محيطة به بلغةٍ بصرية شخصية: فضاء تصويري مُسطّح، مقاييسٍ متلاعبة، وجسوم توحي بتيبّسٍ قَلِيل الاحتشام أو الكاريكاتوري. اعترف زملاؤه بالفريدة التي أضافها أسلوبه؛ فقد نصحه الرسّام الأكاديمي جان-ليون جيروم بالحفاظ على “سذاجته” التي صار يستخدمها كسلاح استراتيجي. حتى حين وُجهت إليه تهمة احتيال مصرفي في 1907، أحضر الدفاع إحدى لوحاته إلى قاعة المحكمة ليبرّر بأن فنه دليل على عدم قدرته على التخطيط لجرم واعٍ—رغم أنها لم تكن المرة الأولى من نوعها، بعد اختلاسه أموالاً سابقاً عن عمله لدى محامٍ في 1863.

بعد تقاعده من الجمارك عام 1893 صار بحاجة إلى المال، ولذا سعى للازدهار كفنان. وسرعان ما برزت لوحات الغابة الاستوائية بوصفها الطريق الأخضر للأرباح: غرفة كاملة في المعرض مخصّصة لتلك اللوحات الكبيرة التي تسكنها بنوابٍ من النمور والقرود والغوريلات بين سعف النخيل وأشجار الموز. استعان روسو بمشاهد استلهمها من مجلات شعبية، ونسخ حيوانات من كتب مصوّرة ومن نماذج حيوانات محفوظة في متاحف التاريخ الطبيعي، كما درس النباتات الغريبة في الحدائق النباتية بباريس حيث ازدهرت نباتات مستوردة من مستعمرات فرنسا في البيوت الزجاجية. ومع تزايد الطلب تعجّل في التنفيذ، فاتجه من دقائق العمل إلى أنماطٍ عريضة أكثر. وقد قدّم تصورُه المزعوم للبراءة ذريعة لتجاوزه أو تبريره عن العنصرية السائدة آنذاك، إذ أعادت بعض لوحاته إنتاج شخصيات سوداء بلا ملامح تُحارَب مع مخلوقات الغابة في مساحات جغرافية مبهمة. ورغم أن روسو لم يخرج من فرنسا قط، خلّقت لوحاتُه تصوّراً للأقاليم الاستوائية غذّى الخيال الاستعماري المتعاظم؛ ومع ذلك منحته لغته التصويرية غموضاً بصرياً ووهجاً يجعلان هذه المصادر المبتذلة تبدو غريبة وساحرة في آن واحد.

لم يجنِ روسو أرباحاً كبيرة في حياته—كان مديوناً غالباً لدى مزجّنه، وهو أحد الأسباب التي أدّت إلى اقتصادٍ بصري في أعماله المتأخرة—إلا أن الاهتمام بأعماله ارتفع بعد وفاته في 1910. وفي ظل ازدهار سوق الفن بعد الحرب، قفزت أسعار لوحاته في عشرينيات القرن الماضي لأكثر من عشرة أمثال ما كانت عليه أثناء حياته. ومع تضخّم متزايد وأزمة مالية وشيكة، مثّل الفن ملاذاً استثماريًّا بديلاً كما يحدث اليوم؛ وفرديّة روسو، إلى جانب صعوبة تصنيف موقعه الحاسم في تاريخ الفن، جعلت أعماله مادةً مثالية للمضاربة. ولمن كان مستعداً للمجازفة مثل ألبرت بارنز الذي كوّن أكبر مجموعة من لوحات روسو، استمرّت الأعمال في تحقيق عائدات تقدَّر قيمتها حتى اليوم.

يقرأ  روزالين دريكسلرسّامة لا تكلّ — شقّت طريقها إلى مرجع فنّ البوبّتوفيت عن عمر يناهز 98 عاماً

أضف تعليق