قوسُ انتصارِ ترامب وسقوطُه

في اجتماع في البيت الأبيض مع متبرعين لتمديد قاعة الرقص الأسبوع الماضي كشف الرئس ترامب عن نماذج لقوس نصري مقترح إقامته في واشنطن مقابل نصب لنكولن وعلى مقربةٍ من مدخل مقبرة أرلينغتون الوطنية، في مزاعم بأنه تكريم للاحتفال بالذكرى الـ250 لاستقلال الولايات المتحدة العام المقبل. ووفق ما تردد فإن تمويل المشروع سيأتي من فائض صندوق حفل القاعة البالغ مئتي وخمسين مليون دولار. رغم التسمية الرسمية بـ«قوس الاستقلال»، استقرّ لدى العامة لقب «آرك دو ترامب» فِي إشارةٍ إلى الشبه القوي مع قوس النصر في باريس، ويُعد هذا المقترح امتداداً لميول ترامب نحو العمارة النيوكلاسيكية ومحاولاته المادية لربط صورته بصور الأباطرة والقادة العسكريين في روما القديمة.

سبق أن ظهر النموذج على مكتب الرئيس في المكتب البيضاوي في التاسع من أكتوبر، لكن الفكرة برزت علناً في تغريدة انتشرت أواخر سبتمبر نشرها المعماري نيكولاس ليو شاربونو تضمنت تصوّراً فنياً للقوس مع تمثال مجنّح للإلهة النصر — الذي أطلق عليه ترامب لاحقاً «ليدي ليبرتي» — ومحاطَين بنسرين. شركة شاربونو المتخصصة، «استوديو العمارة المقدسة» ضمن مجموعة هاريسون ديزاين، تتبنى استخدام النمط النيوكلاسيكي في المباني الدينية، وقد صرّح هو العام الماضي بأن مؤسسته قائمة على مبادئ تتقاطع مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية.

أصول القوس النصري تعود إلى الجمهورية الرومانية؛ فقد عرّف علماء الآثار ومؤرخو الفن أكثر من ثمانمئة قوس روماني قائم بذاته عبر مساحة الإمبراطورية الرومانية السابقة. تطوّر هذا الشكل المعماري خلال القرنّين الذين سبقوا قيام الأمبراطورية، وكان الغرض الأشهر من تشييد هذه الأقواس هو تخليد الانتصارات العسكرية الكبرى التي كانت تُعرف بـ«الاحتفالات النصرية» الرومانية، أعلى وسام تكريمي للقائد المنتصر. الكلمة اللاتينية arcus تعني القوس، وإن كانت الأشكال المبكرة في القرن الثاني قبل الميلاد تُسمّى لدى الرومان fornices. يذكر السجل أن قائدًا يُدعى لوسيوس ستيرتينيوس بنى ثلاثة أقواس بعد حملاته في هِسبانيا ألتريور باستخدام نحو خمسين ألف رطل من الفضة من ماله الخاص. ومع نهاية العصور القديمة الرومانية تَشكّلت أكثر من خمسين قوساً في أرجاء المدينة الأبدية، غالباً كرموز للتفوّق العسكري الروماني وإخضاع الأقاليم.

يقرأ  ترامب يلوّح بقطع تمويل مؤسسات ذات طابع ديمقراطيفي ظل استمرار الإغلاق الحكومي

قد لا تكون كل الأقواس مخصصة لتمجيد انتصار عسكري واحد، لكن أشهرها بلا شك قوس تيطس عند مدخل المنتدى قرب المدرج الروماني، الذي بدأ بناءه في عهد دومتيان عام 81 م لتخليد إنجازات أخيه الراحل تيطس، الذي دمّر الهيكل الثاني في أورشليم. نقش النوحة الشهيرة التي تُظهر نهب المينوراه من الهيكل الثاني تعد من أكثر منحوته على قوس روماني شهرة، واستخدمت لاحقاً نموذجاً لشعار لدولة إسرائيل في أعقاب احتلال فلسطين؛ كما يصوّر القوس عقاباً إيغالياً يحمل تيطس إلى السماء في لحظة الابوذيْزية، مع تماثيل النصر على المناطق الجانبية للقوس. في القرن الرابع ومع بناء قوس قسطنطين عام 315 م ظل معمولاً به أن يحظى المشروع بموافقة مجلس الشيوخ، ولذلك حملت الكثير من الأقواس نقوشاً تذكر Senatus Populusque Romanus — «الشيوخ والشعب الروماني» — كدلالة على قرارٍ سلطي يمنح المجد للانتصار.

تأثّر مشروع نابليون في باريس — قوس النصر في نهاية الشانزيليزيه — بأقواس روما، ولا سيما قوسي تيطس وقسطنطين، وقد وضعت أحجار الأساس الأولى في الخامس عشر من أغسطس 1806 بمناسبة عيد ميلاد الإمبراطور الفرنسي. أما في الولايات المتحدة فهناك أمثلة أيقونية معاصرة: قوس واشنطن سكوير في نيويورك الذي أصبح رمزاً لحي غرينويتش وتم تشييده عام 1892 احتفالاً بمئوية جورج واشنطن، وهناك أقواس أخرى تحتفي بالمحاربين أو بالسلام، لكن دلالتها الرسمية كثيراً ما تتعارض مع سجلّها التاريخي؛ فمتحف بوابة الألفية في أطلنطا أقام قوساً بارتفاع مئة وواحد قدم مُقتبساً من قوس تيطس واصفاً إياه احتفالاً بالسلام رغم ما اقترفه تيطس من قتل واستعباد لآلاف اليهود في حرب اليهود والرومان. الأقواس النصرية تستمر في إيصال رسالة السلطة الأوتوقراطيه بحدة خصوصاً حين تُرتبط بشخصٍ حيٍّ واحد.

يقرأ  مؤسسة يان دو غير الربحية في لندن تعيّن بيلي تانغ مديرًا فنيًا

خلال الأشهر السبعة الماضية اتخذ ترامب خطوات تُشبه أكثر ما تُشبه تصرفات الملكيات والديكتاتوريات منها إلى جمهوريات ديمقراطية: مسيرة عسكرية عيدية في يونيو بدت أقرب إلى احتفال روماني نصري، واقتراحه لسكّ عملات دولارية صورته عليها يتعارض مع قانون العملة لعام 1866 الذي يمنع ظهور شخصٍ حي على النقد والسندات. مشروع «آرك دو ترامب» يتماهى كذلك مع أوامره التنفيذية لترويج العمارة النيوكلاسيكية بوصفها عودة إلى جماليات الآباء المؤسسين، في محاولة واضحة لربط الرموز البنائية به شخصياً.

الأقواس النصرية تحفظ في حجرها ذاكرة من تُخلّدهم والأنظمة التي شيّدتها. هتلر هو الآخر تصوّر قوساً ضخماً ضمن مخططه لـ«جَرمانيا» مع مهندس البلاط ألبرت شبير. مخطط ترامب لقوسٍ نيوكلاسيكي قرب نصب لنكولن لا يختلف سياسياً: هو إعلانٌ عن نصره المتخيل والتسويق الذاتي المتقمص طابع النصب التذكاري الوطني. ربما يُسوّق القوس كرمز لاستقلال الأمة، لكن للمُنتصرين الرومان كان هناك ترديدٌ حاسم في مواكبهم: «Memento mori.» تذكّر أنك إنسان لا إله.

أضف تعليق