وضع الرومان والإغريق القدامى قطع نقود في أفواه الموتى لعبور نهر ستيكس الأسطوري؛ تُقام تذكارات لضحايا الإبادة الجماعية؛ تتغذى النسور على الجثث في جبال التبت الشاهقة؛ وفي عصر التقنوقراطية يحاول بعض الأحباء أحيانًا إعادة خلق حضور الشخص عبر الذكاء الاصطناعي.
هذه بعض الطقوس القديمة والحديثة المتعلقة بالموت التي يتتبعها روجر لاكهيرست، أستاذ في جامعة لندن بيركببك، في كتابه الجديد “المقابر: تاريخ التعايش مع الموتى” (مطبعة جامعة برنستون وتايمز آند هدسون، ٢٠٢٥). في الكتاب المصوَّر يسرد لاكهيرست تاريخ دفن البشر والتقاليد الجنائزية حول العالم، متفحصًا أثرها على الأحياء. كما يوضح كيف يوظف الأحياء الموتى لأهداف قومية وسياسية.
أثناء إغلاق كورونا، قال لاكهيرست في مقابلة مع Hyperallergic إن المكان الوحيد الذي كان يستطيع فيه أن يتناول قهوته كان في حديقة محلية بلندن، حيث عاد إليها مرارًا وتكرارًا.
«ثم اكتشفت أنني أجلس فيما هو في الواقع مقبرة تعود للقرن التاسع عشر، وأن الذين يقدّمون القهوة يجلسون فوق آلاف وآلاف من العظام»، قال لاكهيرست. أثار هذا الاكتشاف فضوله. سرعان ما بدأ يبحث في تاريخ المقابر والمدينة، فاكتشف أن العديد من شوارع لندن بُنيت فوق مواقع دفن.
تطوّر بحثه في نهاية المطاف ليشمل طقوس الموت والدفن في شتى أنحاء العالم، وجمعها في مسح واسع لما وصفه بـ«التنوّع الهائل» لعادات الدفن العالمية.
«المراسم الملاحَظة تعطينا إطارًا ثقافيًا للحزن على الموتى، لكنها موجودة أيضًا لتمنعنا من الانجراف إلى داخل الأرض مع أحبائنا في أقسى لحظة من ألمنا»، يكتب لاكهيرست في الصفحات المبكرة من كتابه.
في بعض الأماكن جذبت طقوس الموت ما يشير إليه لاكهيرست في كتابه بـ«السياحة المظلمة». يزور سائحون، بمن فيهم بعض الصينيين بحسب الكتاب، التبت لمشاهدة طقس يُعرف بـ«الدفن السماوي» المرتبط بالأديرة البوذية. ويتوجه السياح أيضًا إلى مقابر المنحدرات في جنوب سولوسي، إندونيسيا، حيث تظهر توابيت معروضة ومزخرفة بأشكال تمثل الأموات.
«ماذا نفعل عندما نفعل ذلك؟» يتساءل لاكهيرست، متأملًا في تسليع الطقوس الجنائزية في آسيا بشكل خاص. «إذا كان الأمر ينطوي على سياحة إلى جنازة فعلية، أظن أن هذه مشكلة حقيقية تستحق البحث.»
في فصل بعنوان «تجنيد الموتى» يفحص لاكهيرست كيف تُسخَّر الدفائن سياسياً لتخدم أهدافَ حية. «ما فاجأني أكثر كان الشعور العام بأن الأجساد تُجنَّد، كما أسميها في الكتاب، لمشروعات سياسية»، يشرح.
يصف الفصل وفاة الثوري الماركسي فلاديمير لينين، الذي عُرض جسده رغم رغبة أرملته ضمن محاولات جوزيف ستالين لتثبيت نفسه خلفًا له في قيادة الاتحاد السوفيتي. تدفّق الملايين إلى الساحة الحمراء لمشاهدة لينين، ما أكّد لستالين وجود مخزون من المشاعر الجماهيرية يمكن استغلاله، بحسب الكتاب.
في زيمبابوي، صُمِّم مقبر قومي لأبطال الثورة على شكل بندقية AK-47، وهي تفصيلة وصفها لاكهيرست بأنها أكثر ما أدهشه خلال بحوثه.
تلك إضفاءُ المآتم على الأموات هو واضحًا نوع من بناء الهوية الوطنية حول من ضحّوا في سبيلها، يقول لاكهيرست. ومثال آخر يستشهد به هو مقبرة أرلينغتون الوطنية في الولايات المتحدة، حيث يُجنَّد الموتى لسردية قومية.
يختتم لاكهيرست الفصل بالاستشهاد بتقرير نيويورك تايمز لعام ٢٠٢٣ الذي أفاد بأن الجيش الإسرائيلي دمّر ست مقابر فلسطينية على الأقل، في سياق مواجهاته التي يُوجَّه له فيها اتهامات بالإبادة الجماعية.
«الأموات بالفعل يبقون هدفًا مستمرًا في الحرب»، يكتب لاكهيرست، «هم أزهرُ حياة حين يُجنَّدُون لتعزيز سرديات الشعوب والأمم.»
في حين أن الموضوع الأساسي لكتاب المقابر هو، بما يليق، موقع الدفن نفسه، سعى لاكهيرست إلى دمج الأحياء والأموات في سردٍ واحد، وهو ارتباط يراه نادرًا في الثقافة الحديثة. بعض مظاهر التعايش مع الموتى تجري ضمن حدود العائلات، سواء كانت حالية أو قديمة، ومظاهر أخرى تجري على نطاق أضخم، بما في ذلك مواجهة جماعية مع الموت الجماعي والفظائع. في كل حالة، يقدم لاكهيرست فرصةً لبناء مستقبل.
«ثقافيًا كثيرًا ما نريد أن نفصل بين الأحياء والأموات، لكن في الواقع ما نفعله باستمرار هو أن نعيش مع موتانا»، قال لاكهيرست. «في مدينة قديمة مثل لندن، أنا حرفيًا أعيش فوق الموتى.»