قد يُقال—بلا مبالغة كبيرة—إن الاستوديو كان بمثابة بؤرة انطلاق التصوير الفوتوغرافي في غرب أفريقيا. هناك، تفرّغ محترفون متدرّبون، في الغالب رجال عثروا على هذه المهنة صدفةً، لتصوير زبائنهم بعاطفة وابتكار. مالك سيديبِه هو المثال الأوضح على هذا النموذج؛ فصوره التي التقطها لأبناء بلده المالي صارت منذ تسعينيات القرن الماضي تُقدَّر كأعمال فنية، لا كمقتنيات تذكارية شخصية فحسب، بل كسجلات شرعية لهوية جماعية. وفي معظم المقالات التي تتناول عمله—أو عمل مصورين غرب أفريقيين آخرين يمارسون نفْس النهج—تتكرّر الفكرة القائلة إنه «صوّر الناس كما كانوا يرغبون أن يُرى عليهم».
مقالات ذات صلة
أُبالغ قليلاً هنا، لكني أفعل ذلك لأشير إلى إنجاز فريد في مسيرة الراحل. خلفياته الشطرنجية بالأبيض والأسود في الاستوديو، ووُضعيّات زبائنه المليئة بالحيوية، صارت رمزاً للمفردات البصرية التي صاغتها التصويرية الأفريقية في صنع إسهامها الخاص في هذا الفن.
وُلد سيديبِه (1935–2016) وكان، بحسب ما يذكر، رسّاماً بارعاً نال إعجاب الأساتذة في المدرسة. كان يرسم أزهاراً على قطع قماش تُطرّزها فتيات صغيرات وتُوضَع في مظاريف وتُرسل إلى كِبار موظفي الإدارة الاستعمارية. وفي بداياته أثارت والدته، التي كانت تُزيّن الأكواخ، اهتمامه بالفن. كما قال في مقابلة مع جيروم سوثر عام 2008: «في محاكاة الطبيعة شيء من الكرامة والفخر».
لفت ضابط برتبة رائد انتباهه، فأُرسِل في حوالي 1951–1952 إلى مدرسة الحرفيين السودانيين في باماكو، عاصمة مالي. هناك رشّحه مدير المدرسة للمصور الفرنسي جيرار غيّا، الذي أراد طالباً ليُعيد طلاء استوديوه. لما رأى غيّا مهارته في الفرشاة سأله إن كان يهتم بالتصوير؛ فكان ردّه: «انقضضت على الفرصة فوراً. كنت أعمل بالصور، ووجدت أن الكاميرا أسرع بكثير من الفرشاة. فاندفعت إلى التصوير وهكذا صرت مصوراً».
انطلقت مسيرته فعلياً في 1957، عندما بدأ بتغطية مناسبات المحليين—أعراس وعمادات—بدلاً من احتفالات الأوروبيين التي كان صاحب العمل يغطّيها. حينها امتلك كاميرته الخاصة، براوني فلاش، التي منحتْه مرونة كبيرة في الحركة؛ أحياناً كان يغطي أربع حفلات في ليلة واحدة. (بينما كان رفيقه الأكبر سيدو كيتا مثقلاً بكاميرا لوحية أثقل.) من تغطيته لتلك الحفلات تبلور المَنْهَج الجمالي لصور سيديبِه: وثّق أمّة في حالة إيقاع خاص، إن جاز التعبير. وفي 1962 افتتح استوديوه الخاص «ستوديو مالك»، الذي وصفه بأنه «استوديو لا يُشبه آخرين… مريح». كان ينام في غرفة التحميض، وأحياناً يطبع حتى 400 صورة في ليلة واحدة.
صور تلك الفترة تَسجِّل شباباً لا يٌبذّر نفسه، إن عدنا إلى عبارة كريس ماركر. كانت حقبة فريدة، كما اعترف سيديبِه؛ شبّان محافظون في العادة ارتدوا أزياء باريسية عصرية، وكان بإمكان الفتيان أن يرقصوا بقرب الفتيات بحجّة الموسيقى بعد أن يتباهوا بسكوترات فيسبا خاصتهم. وكل ذلك جرى في سياق مالي المستقلة حديثاً.
تكرّر في نصوص كثيرة سرد تلازم رؤيته التصويرية مع المناخ القومي الذي انبثقت فيه. أشار مانثيا دياوارا في مقالة 2002، «الستينيات في باماكو: مالك سيديبِه وجيمس براون»، إلى أن صوره «تُظهر كيف اعتنق شباب باماكو الروك آند رول كحركة تحرّر، وتبنّوا أنماط استهلاكية لثقافة شبابية عالمية، وطوّروا موقفاً تمردياً تجاه كل أشكال السلطة المؤسسة».
هذا التلازم بين الجمالي والسياسي أصبح واضحاً بعد مرور الزمن. عندما يتذكر أهل ذلك الجيل سيديبِه، يتذكّرونه أساساً بنكهة الحنين. في مقابلة فيديو بباريس عام 2016، استرجع دياوارا أيامه كشاب في أواخر الستينيات وبدايات السبعينيات حين شكّلوا نوادٍ—«الروكرز»، «إخوة السول»، «الأرائك»—والتقطوا الصور مستندين إلى ألبومات لجيمي هندريكس، جيمس براون، وأريثا فرانكلين. قال عن سيديبِه إنه «مهندس يوتوبيتي»، وأضاف: «اليوم أتحدث بحنين، لأنه هو حنيني».
مع حقيبتي الجديدة وخاتمي وسوارِي، 1975/2001.
لم يحظَ أول معرض منفرد له خارج أفريقيا إلّا في 1995، حين كان في الستين، بتنظيم من مؤسسة كارتييه للفن المعاصر. ومنذ ذلك الحين قلّما مرّت سنة دون عرض لأعماله، وغالباً ما رافقت هذه المعارض منشورات توثّق المسارات. هذا الاهتمام المستمرّ—إن لم يكن الدؤوب—يرجع جزئياً إلى ما عبّر عنه دياوارا: في تلك الصور الحنينية لا مستقبل واضح يمكن لمشاهد أن يلمحه، لكن ثمة على الأقل إشارة لماضٍ بسيط غير معقّد. في كثير من دول غرب أفريقيا، وفي مالي خاصة، كانت آمال الحرية والتعددية والتحديث السريع للدولة الحديثة ستُمحى قريباً بفعل سياسات شقيقة دموية ونيوكولونيالية. لذلك، في جوهرها، لا تجسد صور سيديبِه الحركة الصاخبة والصوت المفعم لتلك الأوقات المتفائلة فحسب، بل تثير، لدى جموع مَنْ يُحِبّونه، صورة أمة أفريقية تولد ذاتها.
الكتاب الأحدث لسيديبِه عنوانه إطارات مرسومة، نشرته دار Loose Joints المقيمة في مرسيليا ولندن. رافق هذا الكتاب معرضاً في صالة جاك شاينمان بنيويورك، وغطّى فترته الأكثر نشاطاً: أوائل الستينيات حتى أواخر السبعينيات. يمكن أن يبدأ وصف واسع لأعماله بصور حفلات ليلية محمومة نسبياً ومثالية، أو زيارات إلى ضفاف نهر النيجر، يتبعها بورتريه لأشخاص مفعمين بالحماس أو المهابة في استوديوه، ثم سلسلة أخيرة من أوائل الألفية الثانية تصور موضوعات متجهة الظهر في استوديوه، غالبيتها من النساء.
يضم كتاب إطارات مرسومة صوراً انتقها سيديبِه من كامل مشواره. كل صورة مُحاطة بلوحة زجاجية مرسومة بأشكال زهرية، أنجزها ورشة تشكنة تورِي. بدأت هذه الشراكة من جديد بعد أن لاحظ جاك شاينمان والراحل كلود سيمار إطاراً مرسوماً في استوديو صغير أثناء زيارتهما؛ وفي حين تعاون الاثنان سابقاً، كانت ورشة الرسام قد أغلقت لقلّة الزبائن. شجّع صاحب المعرضان الفنانين على استئناف تعاونهم، فعلّم تورِي أبناءه فن التلوين على زجاج معكوس. حقق الكتاب جودة طباعة لافتة، من دون وهجٍ واضح عند انتقال الصورة من الزجاج إلى الصفحة. وقد يكون هذا العمل دليلاً على ديمومة سيديبِه كفنان بصري؛ فبصيرته كمصور لم تقتصر على الكاميرا فحسب، بل امتدت إلى حسّ تعاوني وذوق للحوارات الودّية بينه وبين من يصوّرهم.
حين رآه شاينمان وسيمار، كان المصوّر في سنّ متقدمة، وبدأت زيارات الأجانب لاستوديوه منذ منتصف التسعينيات—عقب زيارة التاجر الفرنسي أندريه ماغنان—تُكرّس إعجاباً بعمله من قبل غير الماليين. حكاية متكررة في تاريخ التصوير الأفريقي المعاصر تتعلق بهذه الحماسة من جانب التجّار الغربيين للفن. معظم روايات الاكتشاف والاستعادة تشير إلى لقاءات صدفة أنقذت مهنّ مثل جي.دي. أوخاي أوجيكيري، سانلي سوري، وصموئيل فوسّو من الانزواء الدولي. لا أقصد بذلك التقليل من علاقات الإنتاج العادلة بين هؤلاء الفنانين وتجارهم، لكنني أبرز كيف تُسافر صور سيديبِه في مفارقة رأسمالية تبدو خيرةً.
قد توفر هذه الصور المؤطّرة زجاجياً نظرة فريدة لما أراد سيديبِه أن يجمعه من وثائق لحياته الاجتماعية في مالي، إذ إنها اختيار نادر اختاره الفنان بنفسه. ويشتمل الاختيار على صور مفاجئة، معظمها خارج الاستوديو: صورة قد تُصوّر عرساً لا ينظر فيها العريس ولا العروس إلى الكاميرا، ويُرى نصف وجه رجل فقط؛ صورة امرأة تحيط بها فتيان يمدّان يديهما لها بمودّة؛ وصورة امرأة في باحة، تنظر إلى طفل بابتسامة بينما يرمق الطفل المصور بنظرة خجولة. تُشيع هذه الصور إحساساً بالحميمية الثمينة التي تتجاوز ترتيب الاستوديو.
كل معرض أو منشور جديد يُعيد تداول صور سيديبِه يمنح فرصة لإعادة النظر في أرشفته للهوية المالية، والتساؤل عن أهميتها اليوم. في إطارات مرسومة، تتضح مكانة سيديبِه المزدوجة كمهندس يوتوبيا ومروّج للحنين بصورة مادية أكثر من مشاريع رجعية سابقة؛ فالحنين عنده مزدوج: بصفته أمين أرشيفه الخاص، وبقرار تشكنة تورِي بالعودة إلى فنٍ زجاجي آيل إلى الاندثار، والدور المحوري الذي لعبته صالة العرض في إطلاق المشروع.
كيف كان سيديبِه، في آنٍ واحد، مهندساً ليوتوبيا يتطلّع إلى الأمام والخلف؟ الاستعارة مركّبة. تشمل معانيها كيف يحاول مصوّرون أفارقة اليوم احتواء طاقته عبر تلخيص مفرداته البصرية إلى أقمشة منقوشة وديكورات استوديوه وعلاقاته الودية الواضحة مع من صورهم. وتشير أيضاً إلى احتمال عالمية حقيقية، عالم تُعادل فيه باماكوُ باريس في تبادل ثقافي. ومع ذلك، يمكننا بالبساطة أن نحتفي بسيديبِه كمايستر بارع للفن الوظيفي، كما كان تورِي. أبسط قراءة لـ«إطارات مرسومة» ربما هي الأفضل: اختار سيديبِه الصور بناءً على ما أراد أن يورِّثه إلى زبائنه السابقين، ونحن محظوظون بأن نلمح ما مرّ.