مايكل راكوفيتز يتحدّى التصورات التقليدية حول أصول الحضارة

في رحلة إلى متجر البقالة الشهير “سهادي” في بروكلين عام 2004، التقط مايكل راكوفيتز علبة حمراء كبيرة من شراب التمر. قال له تشارلي سهادي، صاحب المتجر: «والدتك ستحب هذا»، وأضاف مطمئناً: «إنها من بغداد». لسنوات طويلة ذاع صيت التمور العراقية على أنها من الأفضل في العالم، وكانت والدة راكوفيتز—التي هاجرت عائلتها من العراق عام 1946 مع أسر يهودية أخرى—تحدّث عنها بحنين واعتزاز.

غير أن مرحلة العقوبات بين 1990 و2003 جعلت التمور العراقية شبه مستحيلة التواجد في الولايات المتحدة، وحتى في 2004 وُصفت تارةً بأنها «منتج من لبنان» لأن التعبئة والشحن تمّا في لبنان لتفادي الرسوم الجمركية الباهظة المفروضة على الواردات العراقية.

استلهم راكوفيتز فكرةً من براعة المصدّرين تلك—فقد كان جده أيضاً يعمل في تجارة الاستيراد والتصدير—فقرر تحويل «عمل تجاري مشوه» إلى «فنّ نافذ»، كما قال في شريطه المرئي Return (2004)، المعروض ضمن مسح أعماله «بهارات الكل» في متحف الأكروبوليس. أراد أن يعرف ما الذي يلزم لاستيراد منتج يذكر بوضوح «منتج من العراق»، فأسّس شركة في نيويورك واستورد طناً كاملاً من التمور العراقية.

أخبر راكوفيتز البائعين أن منتجهم سيكون أوّل منتج على رفوف السوق الأميركية يصرّح ببلد المنشأ «العراق» بعد ثلاثة عقود. وأوصىهم أن يضعوا رسالتهم على العلبة؛ فجاءت الرسالة في هيئة درس في تاريخ الفن: صور لأسد بابل وبوابة عشتار المعاد تركيبها (الأصلية كانت قد نُهبت سابقاً ونُقِلت إلى برلين إلى متحف بيرغامون).

يبدو اختيار التغليف هذا تعليقاً على أهم صادرات الهلال الخصيب المغمورة أحياناً: أصول الحضارة نفسها. لقد سُلب هذا التراث من العراقيين مادياً تحت ذرائع علم الآثار، وسُلب قصّته أيضاً من ذاكرة الغرب، الذي يقلّ تقديره لمعنى تلك الإنجازات.

يقرأ  «النجم الهندي في قلب الجدل حول وفيات التدافع»

أما معرض راكوفيتز في متحف الأكروبوليس فحامٍ في معناه: فمدينتا أثينا وأورك ليستا على نفس خط الزمن؛ فمدينة أورك في العراق سبقت المدينة-الدولة اليونانية بألفي سنة أو أكثر، لكن الروايات المبيضة للتاريخ منحت أثينا حصة مفرطة من الفضل في تأسيس ما نعتبره «العالم الكلاسيكي». جزء كبير من المعرض مكرّس لسلسلته «العدو المختفي لا يجب أن يوجد» (2007–)، التي تعيد تصوّر قطع نُهبت من المتحف الوطني ببغداد عقب غزو 2003. هذه القطع مُكوّنة من أغلفة مواد غذائية عربية وصحف، كتحية غير مباشرة لدرس تغليف التمر الذي أعاد طرحه الفنان.

إقران الفنان بهذا الصرح المتحفي يحمل طعناً مؤثّراً؛ فهو يذكّر جيوش السياح المتدفّقة إلى الأكروبول أن جذور العالم المعروف أقدم بكثير من المدن اليونانية، وأن بلاد الرافدين منحت البشرية اختراعات مثل الكتابة والعجلة والزراعة، على سبيل المثال لا الحصر. كما أنّ المعرض يُعدّ بيان تضامني ضد النهب الذي مارسته وتمارسه قوى إمبريالية أنجلو-أميركية. متحف الأكروبول تم تأسيسه عام 2003 بهدف واضح: توفير مكان لعرض رفات تماثيل البارثينون—التي نُقِلت إلى المتحف البريطاني عام 1801 ولا تزال هناك—رداً على رفض البريطانيين مطالب اليونان باستعادة القطع وإيحاءهم بأن السكان المحليين غير أكفاء للعناية بها، فبنت الدولة اليونانية متحفاً خصيصاً لهذا الغرض. رُفوف ضخمة فارغة تنتظر عودتها.

عمل راكوفيتز أيضاً مع مجموعة المتحف الغنية؛ فبين مقتنياته عثر على رأس حجرية قبرصية بعيون كبيرة ولحية متلوّفة توحي بشدة بالطراز الآشوري. (الفنان، الذي تلقى تدريباً على نحت الحجارة، يملك إحساساً دقيقاً بهذه العلامات الأسلوبية.) عرض الرأس داخل صندوق عرض ثم رسم على البلكسي غلاس حدوداً توحي بلاماسو—ذلك الإله الحامي ذي جسد الثور المجنّح ورأس الإنسان—مطوّقاً إيماءة المتحف إلى التضامن الثقافي وتذكيراً بأن هذه العلاقات بين الثقافات لها تاريخ ممتد.

يقرأ  كييف في حداد بعد الضربات — الحلفاء يتباحثون حول تقديم دعمٍ عسكريٍ

كغيرها من العلاقات، تظل هذه العلاقة معقّدة. أحد الألواح المُعاد تركيبها من قصر الشمال الغربي في نمرود مكوّن من غلاف مجلة «نينوى» المنشورة بالآشورية الحديثة والإنجليزية. وحرصاً على ألا يتحوّل التركيز على الأصول إلى إيهام يجعل الثقافة «ماضية فقط»، تضمّن راكوفيتز إشارات إلى صمود الآشوريين: فخلال القرن الماضي ارتكبت الدولة العثمانية مذابح وأعمال إبادة بحق الشعب الآشوري، واليونان لم تُقِر رسمياً بعد بهذه الفظائع رغم وجود مجتمع آشوري لافت في أثينا.

يفجّر المعرض كذلك طرائق تآزر التطهير العرقي وتدمير الثقافة، كما يظهر في مشروع آخر لراكوفيتز يسعى إلى حفظ ميراثه اليهودي العراقي. الحاجة ملحّة: أظهر تعداد حديث أن أقل من خمسة يهود يعيشون الآن في العراق. لذلك، في «قاموس عمبة بغدادية» (2025) صنع راكوفيتز عمبة—مخلل المانجو العراقي—عبأها أثناء حديثه مع والدته في الهاتف، وسجّل مباشرة على الجرار معجم مصطلحات بلهجة يهود العراق.

العمبة معروضة داخل صندوق عرض إلى جانب مقتنيات أُعيرت من معهد شيكاغو لدراسة الثقافة القديمة، بينها «قاموس آشوري شيكاغو»—مرجع شامل للأكادية، أقدم لغة مسجّلة نشأت في العراق الحالي وفكّ رموز كتابتها المسمارية بشدّة علمية. كما يضم العرض نسخة من كتاب صلاة يهودي عراقي عام 1935 كتب فيه بالعربية والعبرية معاً؛ وقد تضرّر الجزء الورقي بشدّة. وبدلاً من دفنه وفق تقليد الجنيزاه حين تتلف الكتب المقدسة، شعر راكوفيتز أنه قد دفن بما فيه الكفاية فأمر بإصلاحه بعناية على يد مُجدِّد كتب بارع. الحفاظ على هذه الأشياء اليهودية-العربية يحمل دلالات شخصية عميقة للفنان، لكنه أيضاً عمل سياسي صريح يذكّر بحياة كانت هنا قبل فظائع منتصف القرن العشرين.

إن التاريخ المكتوب بيد المنتصرين يميل إلى سرد واحد: إذ تُقلّص ثقافة الخصم وتُشوّه لتبرير العنف والحرب والإبادة. كلمة «بربري» غالباً ما تُستعمل بمعنى «غير متحضّر»، لكن أصلها كان يشير ببساطة إلى «غير-يوناني»—إهانة لا تاريخية بالمرة. تدخلات راكوفيتز تقلب هذا السرد؛ إذ يعيد حفظ وإعادة تركيب ثقافة مهدّدة. عمله حادّ، رقيق، شديد الأخلاقية، لكنه لا يزوغ عن التواضع؛ يظلّ مثابراً بلا تكلّف، يحفظ جوهر الإنسانية نفسها ضد كل الصعاب.

يقرأ  كنزة تحتفي بالبراعة البشرية: الباليه يتحول إلى فن رقمي يخطف الأبصار

أضف تعليق