دخولك إلى المعرض الفردي الثاني لمادلين بيالك في نيوتشايلد يشبه عبور غابة مسكونة بالذاكرة — مشهد شاذ حيث يلتقي الحيّ بالطقس الشبه روحي. يستدعي عنوان العمل إيدولون، مقتبس من والت ويتمان بمعنى “صور روحية لما لا مادي”، جوهر هذه المجموعة الجديدة من اللوحات التي أنجزتها على مدار العام، والمولودة من رحلة قصيرة عميقة عبر منتزه سيكويا الوطني في كاليفورنيا.
في بدايات هذا العام، قبل أيام من اجتياح الحرائق الضخمة لمناطق لوس أنجلوس وسان دييغو، أمضت بيالك يومين تسير بين بعض أقدم الكائنات الحية على وجه الأرض، على بعد نحو ثلاثمئة كيلومتر شمال لوس أنجلوس. تركت هالة عملاقية تلك الأشجار — شهود قرون — انطباعاً لا يمحى في نفسها. “الأشجار نفسها أشباح في ذهني”، تقول، “تحمل حضوراً وغايةً، لكنها أصبحت الآن لا مادية — صور في يومية بصرية.”
المعرض يختزل بين التقدير والمواجهة. عبر ذاكرة بيالك المتكسرة ترتفع أشجار السيكويا كرموز زمانية هائلة — كائنات شديدة القامة تكاد تتخذ صفة الأسطورة، تُمثل عليها أثار تأثير الإنسان على المناخ ومع ذلك تصمد بصمتٍ ومرونة. تحمل حلقاتها ذكرى الحرائق والعواصف وقرون التغيّر، كما لو أن قصة الأرض قد نقشّت في لحمتها الحية. تمسك بيالك بهذه الصور كآثار أو “إيدولونات”، محاولة لحفظ ما هو أثمن قبل أن ينزلق إلى التاريخ. لكن الغابة التي تستدعيها ليست بمنأى: تحيط بها جبال قاحلة عريضة حيث “تحولت أحزمة من الأشجار إلى هياكل عظمية محروقة بسبب حرائق أكثر عنفاً”. هذه المنحدرات الرمادية — مقابر صامتة تحدّ الربوة الحيّة — تشكل ظلّاً لصمود السيكويا، تذكرة بأن نجاة هذه العمالقة ليست مسلمة ولا مضمونة. في التباين بين الملاذ الأخضر وحدوده المحروقة، تَصوّر بيالك الحقيقة المزدوجة لعصرنا: جمال وخراب، حياة وخسارة، يقفان جنباً إلى جنب ويبرز كل منهما الآخر.
في لوحتها “مدينة الأشباح” يتحول وجود المتلقي نفسه إلى جزء من العمل. لحاء شجرة هائلة يتوهّج بدفء يبدو أنه ينبعث من المشاهد، بينما تتراجع جبال بنفسجية شبيهة بالأمواج إلى ظلال باردة. هنا تستكشف بيالك فكرة أن الوعي ليس مجرد نتاج فيزيائي بحت بل عنصراً أسايِساً في الواقع ذاته. “النباتات على الأرجح تمتلك نوعاً من الوعي أكثر مما لا تمتلك”، تلاحظ، “إنها تجاهد، تهتم، تشهد.” أمام القماش لا نكون متفرجين سلبيين بل مشاركين فاعلين — مصادر للضوء يغيّر حضورها المشهد. تتحول اللوحة إلى دعوة صامتة للعمل، تقترح أنه إذا كان بوسعنا أن نترك أثراً على الدمار، فبوسعنا أيضاً أن نكون محفّزين للتجدد.
روحانية تكاد تقترب من البانثية تسري في أروقة المعرض. مثل “أوراق العشب” لويت ويتمان، توحي لوحات بيالك بتواصل ديمقراطي متجسّد مع الطبيعة — فهم يفيد بأن الإنسان ليس منفصلاً عن محيطه بل متداخلٌ فيه. في “الحياة على الأرض” تنفتح لوحة بانورامية ينجو فيها كائن وحيد متجول في غابة مشعة تكاد تبدو غير أرضية. المشهد يستحضر الرهبة الرومانسية في أعمال كاسبار دافيد فريدريك، ومع ذلك تبدو البرية هنا كونية وغريبة في آنٍ معاً. يتحرك ذلك الشكل الصغير بالنسبة إلى الأشجار الشاهقة والغريبة مثل حاجّ عبر ما قد يكون كوكباً آخر — ليدرك في النهاية أنه كوكبنا، مُعاد تشكّله باضطراب بيئي ومرور الزمن.
الزمن نفسه مادة في عمل بيالك. تُبنى كل لوحة ببطء، وتُعدَّل وتُعاد تصورها مع حركة الذاكرة. تبقى الطبقات السابقة مرئية في “ومضات” من الطلاء — بقايا شبحية تشير إلى ما كان. في “في البعيد” يقف شخص داخل شجرة هائلة تقسم القماش إلى عالميْن: ماضي ومستقبل، حفظ ودمار، أمل وظلاله. تتردّد هذه التباينات صدى فكرة نعومي كلاين عن “عالم مرآة”، حيث مقابل كل منظر محفوظ تحترق غابة أخرى في الخفاء.
رغم توقيرها الهادئ، فإن “إيدولون” ليست تأملاً سلبياً. ترى بيالك في المتلقي مشاركاً فعالاً، مصدراً للدفء والنور الذي يشكّل المشهد ذاته. “حتى أثناء مشينا بين السيكويا”، تتذكر، “فإن آثار أقدامنا غيّرت المشهد. نتحرّك كالبعوض حول هؤلاء العمالقة، سريعون جداً عن فهم العواقب.”
ومع ذلك، ثمة حنو — إمكانية لإعادة تعلم الانسجام مع العالم الطببيعة. يكتب آيفري ف. غوردون أن “اتباع الأشباح يعني إعادة الحياة إلى حيث لم يكن سوى ذكرى باهتة أو أثر عاري… نحو ذاكرة مضادة، من أجل المستقبل.” في غابة بيالك، تومض هذه الذكريات المضادة كصور باقية، رافضة أن تُنسى جوهر الحياة.
كما فعل الرسام النرويجي بيدر بالكه الذي رسم رأس الشمال طوال حياته بعد صيف واحد هناك، صار لقاء بيالك القصير مع السيكويا ممتداً لا ينفد. من خلال هذه اللوحات تقدم لنا مساراً داخل تلك الغابة — فرصة للوقوف بين العمالقة، للشعور بثقل الزمن وهشاشته، ولربما لمحة عن الجوهر الخفي وراء كل الأشياء.