مجلة جوكستابوز — «قُل أقل» إلينور سوردّي غاليري ماكس هيتزلر، برلين

تُعلن غاليري ماكس هتزلر بامتنان عن «قُل أقل»؛ معرض فردي لأعمال جديدة للفنانة إلينور سوردِي، وهو أول عرض لها في برلين والثاني بالتعاون مع هذا المعرض.

في صورتين من عرض إلينور سوردِي الجديد في غاليري ماكس هتزلر، يحدق شخص من مركز اللوحة نحو المشاهد. تبدو عينا هذا الشخص مسهتْتان، إذ إن كل واحدة منهما تنظر إلى — أو ربما عبر — فعلٍ يديره اليدان بانتباهٍ شِبهِ نَوْمي: نسج السلال وتشذيب زهورٍ من ورق. وعلى الرغم من أن الوجه متجه إلى الخارج، لا ثمة أي عدائية في طبيعتهما؛ فكلتاهما منغمسَتان تمامَ الانخراط في نشاطيهما، انما تبدوان كمن استحوذت عليهما حالة من الاندهاش. يشتركان في خصل رأسٍ طويلةٍ شقراء، دلالة واضحة على أنهما يقومان بدور «نُسخٍ» أو ممثلَين للفنانة نفسها. كثيرًا ما تستعمل سوردِي في لوحاتها وسائل تَجْسِّد تصنُّعها الفني، فتجعل العمل يوعِي ذاته.

في لوحة «من أجلك»، يتحول حافَةُ الصورة السُّفلى إلى سطح يجمع فتات الورق الملون المتساقط من قصّاصة الزهور. بهذه الطريقَة المرِحة النموذجية، تلمّح سوردِي إلى «مَرْأى» اللوحة كشيء مادي؛ فالارتداد الذاتي على العمل شكْلٌ مهم من أشكال اشتغالها. وفي «مفصول»، بصورة أوضح، يشجع الجمع بين الفعل المُصوَّر والتطبيق التقني على إحساسٍ بأن سطح اللوحة يجسّد (أو يوازي) نوعًا من الواجهة الخفية أو حقل القوة. على جانبي هذه المستويْن، يمكن قراءة المقدمة والخلفية كمستويات متمايزة للواقع؛ وقد تُعرَّف هذه بدورها على أنها الفعلي افتراضًا والافتراضي، أو ربما الحقيقي والمتخيَّل أو المَذكور. تُستدعى السرديات إذًا لا بأوصافٍ تصويرية فحسب، بل بخصائصَ شكلية؛ الذات تُؤخَّر هامشيًا أمام عالم الفعل، أو تراقب حالمةً عبر زجاجٍ إلى عالمٍ حُلُمِيٍّ خارجي.

في أعمالها الأخيرة، بدأت سوردِي تبني خلفياتها من طبقات متعددة من الألوان المخبَّرة (scumbled)، وهو تطور يمنح لوحاتها نوعًا جديدًا من التوتّر الفراغيّ. أمام هذه البقع الانطباعية، تُرسم العناصر الأمامية بتمريرات ناعمة من الألوان المدرَّجة. النتائج، حين تُكبَّر إلى مقياسٍ كبير، تُعيد إنتاج تجربة فقدان الذات في عملٍ متواضع بينما يخرج العالم المحيط عن بؤرة التركيز — تجربة بصرية وعاطفية في آن، ومشتركة بالتأكيد مع الفنانة نفسها أثناء اشتغالها على قماشتیها. لا تَتبلور صورة قصّاصة الزهور إلا حيث تخترق رؤوس أصابعها مقابض المقصات (ما لم تكن أصابعها تبدو فقط في حالة وضوح بينما تبقى مساحةً سالبة — مفارقة بصرية). كأنما، عبر التفاعل مع الشيء، تصِل قاصّة الزهور إلى لمسةٍ تفتح لها مدخلاً إلى حقيقةٍ أوسع. الرسم نفسه واحد من هذه الأشياء، وكذا وسيلة للتأمل في «علاقات الأشياء»، مع الاستطراد إلى ما أسماه د. و. وينيكوت «المساحة الانتقالية»؛ وهي مساحة الإبداع (ومفارقة أيضًا، لأن وينيكوت يعرّف هذه المساحة على نحوٍ يبدو مستحيلًا: ذاتية وموضوعية معًا). بينما نعملل على اللوحة، نكون «ميتِين للعالم» وفي الوقت ذاته أكثر حياةً، وأكثر تماسًا مع عمليةٍ حيوية.

يقرأ  نيو مكسيكومن وراء المرآة

العملية المشار إليها هي تلك التي يبدو أن هذه الشخصيات قادرةٌ على الوصول إليها؛ فالفِعلُ النسيجي، على وجه الخصوص، يذكّر بكيفية بناء الطيور لأعشاشها بفطريةٍ غريزية. رأى الكاتب والباحث الميداني يوجين ماريس أن البشر أو أسلافهم من القردة كانوا يملكون منذ زمنٍ بعيد معرفةً غريزيةً من هذا النوع، وهي قدرةٌ نَسُواها جزئيًا دون أن يفقدوها تمامًا. في كتابه الكلاسيكي «روح القرد»، يصف ماريس تجارب ظنّ أنها تُبيّن أن إنسانًا مُعصبَ العينين ومُنوَّمًا قد يُترك في مكانٍ ناءٍ فيجد سبيلَه إلى المنزل مسترشدًا فقط بغريزةٍ مَسْكنٍ فطرية، كمثل الطائر. لو أمكن إيقاظ العقل الواعي وتهدئته عن هموم النفعية، ربَّما استعاد الجسدُ معرفته الأجدادية. تبدو ناسِجة السلال لدى سوردِي حالمَةً بعملها بقدر ما هي منفذة له.

عُرف عن رسامين أنهم يعملون بسرعةٍ ليفلتوا من رقابة العقل الواعي؛ فان غوخ، على سبيل المثال، كان أحيانًا لا يتذكر أنه أَنْجز لوحاته. تُذَكّرنا أعمال سوردِي، على العكس، بأن النهج البطيء والمجتهد قد يفتح مساحةً للتخيُّل، حيث تتعايش التركيز المكثف والحالة الحلمية معًا.

وأنا أتأمل هذه الصور يتبادر إلى ذهني ما كتبه بول فاليري عن فنّ النَّسّاجة والرسامة ماري مونييه. أثنى فاليري على أعمالها لكونها تجمع، كما قال، «عناد الحشرة ووفاء الصوفي الثابت». لذلك، ذكّرته لوحاتها بـ«اللآلئ الدقيقة» و«الخمور المعقّدة والناضجة» و«الناس الذين بلغوا درجة تميُّز عالية»، أشياء بلغت كمالها، كما وصف، بـ«تراكمٍ غير مستعجل لأسباب متتالية ومشابهة». لقد كانت تقدُّمات سوردِي نحو مزيدٍ من البراعة والسيطرة ثابتة. باستعمالها لتباين الضوء والظل، تشكّل هياكلَ من ظلالٍ ونورٍ وعلىها تفرش ألوانها الجوهرة-المشابهة أو قوس قزح.

— باتريك برايس، ٢٠٢٥

أضف تعليق