عندما تستحضر الذاكرة تاريخ الاستعمار الأوروبي في افريقيا، يتبادر إلى الذهن عصر منتصف إلى أواخر القرن التاسع عشر الذي يُعرف بصراع الاقتسام أو “التسابق على إفريقيا”. كانت بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال قد رسّخَت أقدامها بالفعل في موانئ وسواحل القارة، ثم اتجهت الأنظار تدريجياً إلى الداخل بحثاً عن موارد تُستغلّ ومنافع اقتصادية إضافية؛ ومع ذلك، لم يكن ذلك الصراع بداية التماس الأوروبي الطويل مع القارة.
بحلول سبعينيات القرن التاسع عشر كانت القوى الأوروبية تسيطر على نحو عُشر مساحة القارة، مع تركيز في الشمال المطلّ على البحر المتوسط وفي أقصى الجنوب. سبق ذلك تأسيس شركة الهند الشرقية الهولندية أول مستوطنة أوروبية في كيب تاون عام 1652. وعلى امتداد قرون سبقت ذلك واستمرت بعدها تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي؛ إذ قُدّر عدد الناس الذين اُنتُزعوا ووُوضعوا على السفن بنحو 12.5 مليون شخص أو أكثر، معظمهم إلى الأمريكتين.
في حقبة كانت الرسائل تُكتب وتُنقل باليد، ظهرت مكاتب سفر محمولة صغيرة من الخشب تُطوى وتُصبح سطح كتابة مغطى بالجلد، مع فتحات تخزين لأقلام الحبر وتراكيب الريشة والعبوات. هذه الآلات المحمولة جعلت من الممكن إرسال مراسلات من أماكن شتّى، فصارت بمثابة “الحواسيب المحمولة” في زمانها.
تتعامل الفنانة سونيا إي. بارتتت مع هذه المكاتب كحلقة مادية تُنقش عليها طبقات من تاريخٍ مشتت: صدامات ثقافية ملؤها الطمع والعنف، وسرديات أحادية تميل لأوروبا. تُعيد بارتتت استخدام خشب مستعاد وجلود ومخمل وأقلام وريشات حبر وسلال من الخوص، معتبرة الأسطح الإدواردية المكتشفة خاماتً تُمكّنها من إحياء تماثيل ذات وجوه تعبيريّة تستحضر أقنعة احتفالية أفريقية.
على مدى زمان طويل طوّرت الشعوب والمجتمعات المحلية في القارة أقنعةٍ تقليدية تعبّر عن معتقدات وتقاليد محددة، لكن اهتمام الأوروبيين بجمع هذه القطع أسّس لصناعة تجارية ما تزال قائمة حتى اليوم. وكما أن المكاتب الخشبية كانت تكسوها جلود أو مخمل، فقد نُحتت الأقنعة الإفريقية من خشبٍ مكشوف وزُيّنت بالجلد. وللخشب المستعمل في صناعة بعض هذه المكاتب —كالماهوجني— قصةُ نمو في مناخ استوائي ثم شحن عبر البحار “بنحو مماثل للطريقة التي شُحننا بها نحن”؛ هكذا تذكّرنا الفنانة بصلة مروّعة بين المواد والعبودية الدولية.
تُضيف بارتتت قواعد من الخوص إلى قواعد المكاتب، فتُلمّح إلى أكتافٍ وأجسادٍ وتسمح للقطع بأن تُرتدى بشكلٍ فضفاض كلباس طقوسي. في أفق فكري أوسع تبدو هذه القطع كقنوات أو ناقلات ميتافيزيقية: رؤوسٌ يمكن أن تلتحم بجثث الشتات الأفريقي وتمهّد لنا سُبلاً للرجوع والاتصال بما حجّ إليه الأجداد.
تُعرض بعض تماثيل بارتتت ضمن معرض The Ground Beneath: Material Memory and the Resilience of Hope في مسموز لندن، ويستمر العرض حتى 15 نوفمبر. للمزيد من الأعمال والمعلومات يمكن الاطّلاع على موقع الفنانة وحسابها على إنستغرام.