فشلته المسيحية. فماذا بعد ذلك؟ الفن؟
حياة فنسنت فان غوخ كمبدع بدأت متعثرة وبسيطة في عام 1880، وفي عام 1890 انتهت بانتحارٍ أطفأ وجوده عن عمر يناهز السابعة والثلاثين. حياة عاصفة انطفأت باكرًا.
كتاب “نار في روحه: فان غوغ، باريس وصناعة الفنان” يقدم سيرة نقدية من جهة وسردًا حساسًا ومترقِّبًا لولادة عدد من لوحاته الجوهرية من جهة أخرى. يركز الكتاب بالأساس على سنتَي 1886 و1887، حين كان يقيم مع أخيه الصبور ثيو في شقةٍ على شارع متعرج يرتفع في مونمارتر، شارع لوبيك.
لماذا هاتان السنتان تحديدًا؟ لأن غمره في دوائر الطليعة الباريسية آنئذٍ، ومعارفه المتعددة مع فنانين أمثال تولوز-لوتريك، إميل برنار، وغوغان، والنقاشات الحادة التي كانت تُدار في هواء مدينة النور حول ماهية الحداثة في الفن، كلها منحته أدوات تشكيل هويته الناضجة كفنان. إن كان الأكايمية قد ماتت، فما الذي سيخلفها؟
في تلك السنوات كانت هناك تيارات عديدة تطلب انتباهه: الانطباعية (التي كانت قد حققت نجاحًا بالفعل)، ما بعد الانطباعية، التقسيمية، الفن النقطي، الرمزية، الكلوائزونية، اليابانية، النابيزم. لكنه لم ينتمِ إلى أيٍ منها؛ كان رجلًا شديد الاستقلالية، لا يحتمل الانضواء تحت لواءٍ واحد. بدلاً من ذلك اقتطف عناصر متفرقة – شدة لونية تكاد تكون محمومة، جودة الورق المجعد المستعملة في المطبوعات اليابانية، وغير ذلك – ليصوغ من هذه الخلاصات عوالمه الخاصة المتميزة.
أونغر ماهر بشكل خاص في تفسير مستوى النقاش العنيف المتقلب والمتناقض غالبًا حول الفن وطرق صناعته. يستعرض القصة بكل تعقيداتها بحيوية واحترافية، مع فهم واضح للسياقين الاجتماعي والفكري. ومن الطبيعي أن يستفيد كل كاتب عن فان غوخ من مئات رسائله الاستثنائية التي تجسِّد ذكاءه وتناقضاته، وهذا الكتاب ليس استثناءً؛ فاقتباساته الواسعة من تلك الرسائل، بصياغتها النابعة أحيانًا من غضبٍ نباحي، تمنح القراءة متعة حقيقية.
كان فان غوخ متعجرفًا، جدليًا، مؤنبًا لنفسه ومخادعًا في بعض مظاهر التوهم، حريصًا على العمل كالحصان الجرّاحي. كاد كل من قابله يجد فيه شخصية من الصعب التعامل معها، عدا أخيه الأصغر، ثيو، التاجر الفني الباريسي المحترم والمتسامح الذي دعمه ماليًا طوال حياته لأنّه كان يؤمن بأن شقيقه الأكبر يمتلك من براعة العبقرية ما يفوق الحد.
لكن هنا ثغرة مهمّة في الكتاب: التعامل مع الشعر كان سطحيًا ومُهْمَلًا. معظم الدراسات عن فان غوخ — وهذا الكتاب ضمنها — تُعير اهتمامًا كبيرًا لشغفه بالأدب الفرنسي، ولا سيما إميل زولا ومرجعيته الطبيعية. ما يغفل عنه تفسير طبيعة معتقدات فان غوخ (التي يمكن وصفه بها بشكل أدق على نحوٍ ما كمتصوف للطبيعة أو بنطهيست) هو تأثير الشعر على تفكيره وصناعته؛ فالشعر كان منبع غذائه العاطفي.
في خريف 1888 رسم لوحة لشاب بلجيكي اسمه يوجين بوك عنوَنها “الشاعر”. ما مقدار انشغاله بالشعر وفكرتَه عن الشاعر؟ أونغر يذكر هذه اللوحة لكنه لا يتوقف عندها، ولو فعل لكان هذا الكتاب أعمق بكثير فيما يقدمه بالفعل.
الكتاب غني بالصور واللوحات التي توثّق مراحل مبكرة من أعماله: مناظر خريفية، طاولات صامتة، مشاهد للفلاحين مثل “آكلي البطاطا”، ورسائل تحمل رسومات تخطيطية توضح عملية التفكير الإبداعي لدى الرسام.
“نار في روحه” لمايلز ج. أونغر (2025) صادر عن منشورات بيغاسوس، ومتوافر في المكتبات وعلى الإنترنت.