اكتشاف خزانة من النقوش الصخرية بحجم الحياة في الصحراء العربية الشمالية يوحي بأن هذه المنطقة التي تُعرف بقسوتها كانت مأهولة قبل نحو 12000 عام، عكس الافتراضات السابقة بكونها غير صالحة للسكن. ونُشرت النتائج الشهر الماضي في مجلة Nature Communications، ما يملأ فراغاً طويل الأمد في التسلسل الأثري للفترة الانتقالية بين نهاية العصر الجليدي الأخير وبداية الهولوسين.
خلال مسح ميداني لثلاث مناطق لم تُستكشف آثارياً في صحراء النفو د السعودية — جبل أرنان، جبل مليحا، وجبل مسما — عثر الفريق على 176 نقشاً ضخماً نحتت على واجهات صخرية من الحجر الرملي. النقوش مغطاة بطبقات سميكة من الصقل الصخري الداكن، ونُفذت على رفوف مرتفعة تصل إلى نحو 39 متراً، ما يدل على صعوبة الوصول وإرادة المنقّشين لتعريض أعمالهم للعيان.
وصف الباحثون صعوبة الوصول إلى هذه الأسطح الحجرية وخطورة عملية النحت، ورأوا أن الارتفاع جعل هذه المشاهد «جذّابة» للمنقّشين الذين ربما خاطروا بحياتهم لإبداع هذا الفن.
أُجريت الدراسة في 2023 على يد فريق دولي من الباحثين ومتخصصي التراث بقيادة عالمة الآثار ماريا غوانين من معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان الجيولوجي في ألمانيا، ومولتها الهيئة السعودية للتراث كجزء من برنامج رؤية 2030 السياحي والاقتصادي، الذي طاولته انتقادات بوصفه محاولة لتبييض سجل منتهكات حقوق الإنسان واستغلال العمال والمهاجرين.
تمثل غالبية النقوش حيوانات متأقلمة مع البيئة الصحراوية، من بينها جمال برية، عِرْب (ماعز جبلي/وَزَن)، ظباء، وحيوانات شبيهة بالخيول، إضافة إلى نقش وحيد لسلف بَقَري منقرض. كثير من هذه الأعمال وُضعت فوق نقوش أقدم «أقرب إلى الكرتونية»، ما يعكس تطوراً أسلوبياً عبر الزمن.
يفترض الباحثون أن مجموعات الصيادين-الجامعين الرحل قد استخدمت هذه النقوش كدليل مرئي لشبكات مصادر المياه العذبة، وهو تفسير ينفي الفكرة القائلة بعدم وجود نشاط بشري بالمكان في تلك الحقبة. فصُعُود أنماط جوية باردة متقلبة أدى آنذاك إلى جفاف واسع النطاق في شبه الجزيرة العربية، مع هجرات كثبانية ونزوح جماعي للسكان.
دعمت التحليلات الرسوبية وجود بحيرات موسمية كان من شأنها أن توفر مصدراً مائياً يسمح ببقاء السكان الأوائل في نظام بيئي جاف. ولفت الباحثون إلى أن تصوير الحيوان البقري الوحيد — المعروف بكونه «شَراباً مُلزماً» — يشير بقوة إلى توفر مياه عذبة لا غنى عنها لبقائه.
كتب المؤلفون أن النقوش، التي ربما امتدت على مدى آلاف السنين، كانت تُعيد إلى ذاكرة الجماعات رموزها ومعتقداتها القديمة، بما شكّل إطاراً لتنظيم حياتهم الموسمية وعزّز قدرتهم على التكيف والازدهار في هذه البيئات الهامشية.
إلى جانب ذلك، كشف الحفر عن 16 قطعة عظمية وقرابة 1200 أداة حجرية وخرز زينة في المواقع الثلاثة؛ وبعض هذه القطع وُجدت مباشرة تحت النقوش الصخرية، ما يوحِي بعلاقات بين مجتمعات عربية قديمة وشعوب levantية شمالية تستلزم رحلاتٍ طويلة ومسارات معقدة للتواصل والتبادل.
ختم الباحثون بأن متانة هذه الصور ربما سهلت نقل المعاني والرموز عبر أجيال من الناس الذين استخدموا هذه المواقع، فصارت النقوش مرجعاً ذا بوعد معرفي وثقافي عبر الزمن.