بوكروفسك لم تسقُط بعد. هذا ما أكّدته القوات الأوكرانية على الأرض، رغم إعلان الرئيس فلاديمير بوتين مؤخراً أن القوات الروسية فرضت سيطرتها على المدينة. لايزال الدفاع الأوكراني متماسكا في الشمال، حتى لو كانت المعركة تجرف الأرض لصالح الخصم في أجزاء من الشرق.
في مقر قيادة بعيد عن الخطوط الأمامية، يُنقل الأوامر عبر الراديو بوتيرة سريعة ومتوترة. الجنود يراقبون عشرات خلاصات طائرات الدرون المباشرة وينسقون الضربات ضد مواقع روسية داخل المدينة. قائد لواء سكالا الهجومي، يوري، حريص على إظهار أن الشمال ما زال تحت سيطرة أوكرانية — يريد دحض مزاعم الكرملين بأن بوكروفسك باتت في أيديهم.
طلب القادة عبر الراديو من جنديين أن يكشفا عن علم أوكراني من نافذة مبنى لفترة وجيزة. تحركا بسرعة لتفادي الرصد، وأظهرت لقطات الدرون اللحظة التي لوّحا فيها بالعلم الأصفر والأزرق قبل أن يعودا الى الغطاء.
يوري يقول لنا: «لقد رأيتم بعينكم الآن». وأضاف: «أعتقد أن على العالم أن يعرف أننا لن نتخلى عن أرضنا. إذا لم نبرز ذلك، سيفقد الجميع الثقة وسيتوقفون عن مساعدة أوكرانيا».
معركة بوكروفسك، التي كانت في وقت من الأوقات محوراً لوجستياً مهماً للجيش الأوكراني، تستمر منذ ما يقرب من ثمانية عشر شهراً وأدت إلى خراب واسع في أرجاء المدينة. السؤال الآن كم من الوقت ستستطيع أوكرانيا الصمود قبل أن يتغير ميزان القوى؟
مراقبو التقدّم الروسي يؤكدون أن القوات الأوكرانية تكاد تحتفظ بلمسٍ محدود بالمدينة. الروس يتقدّمون ببطء من الجنوب، والأوكرانيون يقولون إنهم ما زالوا يسيطرون على الشطر الشمالي حتى خط السكة الحديد الذي يقسم المدينة.
قائد كتيبة شاب يُدعى ساشا بعمر 25 عاماً عرض خريطة وقد وضع فوقها جنوداً بلاستيكيين باللون الأخضر لتمثيل مواقع الدفاع الأوكراني، وجنوداً بنية لتمثيل تقدّم العدو. الروس يستخدمون فرقاً صغيرة من جنديين إلى أربعة للتسلل وراء مواقع الدفاع الأوكراني، وأحياناً يتنكرون بزي مدني. ساشا يصف هذا التكتيك بأنه «جيد لاختراق خطوط العدو وكسب موطئ قدم»، لكنه يضيف أن أي قوة تخترق إلى خطوطنا الخلفية تُكشف بسرعة — يستغرق رصدها وتدميرها بين 15 و20 دقيقة.
الخسائر الروسية كبيرة، لكنهم لا يزالون يمتلكون أعداداً أكبر من القوات. جندي أوكراني بالنداء «رابيت» أعرض علينا جوازات ووثائق استُخلِصت من قتلى روس. سأته عما إذا كانوا قتلوا عدداً كبيراً من الروس فأجاب ببساطة: «ليس بما فيه الكفاية».
وصف رابيت الوضع بأنه «صعب لكن تحت السيطرة». أراه يعرض رشاشاً روسياً استولى عليه أحد رفاقه الذي قاتل في بوكروفسك لمدة سبعين يوماً متواصلة. «كل ما كان يريده سجائر وذخيرة» يقول رابيت.
رغم الإرهاق والضغوط، لا توجد بوادر استسلام في صفوف القوات الأوكرانية. ولا يوافق رابيت على أي مقترح بتنازل عن مزيد من الأراضي مقابل السلام: «دماء كثيرة سُفكت بالفعل. نحن جزء من هذه الأرض، وإن سلمناها فسيريد الروس المزيد».
جندي آخر بنداء «غوست» في وحدة مختلفة يصف الوضع بأنه «متوتر لكن ليس حرجاً». يرفض رواية استيلاء الروس على المدينة ويصفها بأنها «دعاية روسية»، معتبراً أن أنباء إحاطة بوكروفسك «معلومات مضللة»، لكنه يعترف أن «الجميع منهك — روسيا وأوكرانيا على حد سواء».
التمسّك بالأرض يكلف الأوكرانيين ثمناً باهظاً. يشارك لواء سكالا مقاطع فيديو حديثة من الخطوط الأمامية تظهر الجنود يضطرون للاختباء داخل مبانٍ من طائرات الدرون الروسية. همس الطائرة المقتربة عادة ما يسبقه رشقات نارية كثيفة في محاولة لإسقاطها. «خوتابيتش»، الذي حارب في المدينة شهراً متواصلاً، يقول إن رؤية الدرون تنير موقعك أمر مخيف: «هناك الكثير منها وتطير على مدار الساعة».
الروس يستعملون درونات مزودة بكاميرات تصوير حراري تستطيع الرؤية ليلاً. وخوتابيتش يقول إنهم دائماً يأملون في «طقس جيد» — يقصدون الضباب أو المطر أو السماء الرمادية؛ أي ما يصعّب الإقلاع والعملية الجوية.
في بوكروفسك، الجنود الأوكرانيون مركزون على القتال وليس على المفاوضات. معظمهم يتجنّب الأسئلة السياسية، لكن نائب قائد لواء سكالا، متطوّع من لاتفيا يدعى «الأب الروحي»، أكثر استعداداً لإبداء رأيه. يقول اللاتفيون «يفهمون أنه إذا خسرت أوكرانيا الحرب فستكون بلادنا التالية». يوجّه «الأب الروحي» رسالة صارمة لأوروبا والولايات المتحدة: يصف الرئيس دونالد ترامب بأنه «قائد ذو حضور وكاريزما»، لكنه يحذّر من أن موقف مبعوث السلام ستيف ويتكوف إذا وقف مع بوتين «سيجعل أمريكا وترامب يبدوان ضعيفين». أما عن أوروبا فيصفها بأنها محاطة بـ«كثير من الحديث وكثير من البيروقراطية وليس بما يكفي من الفعل».
رسالة الجنود التي سمعناها هي أن الحالة في بوكروفسك ليست قاتمة كما يصورها البعض — لكن أوكرانيا بحاجة إلى أن تبين للعالم مدى تعهدها وصمودها في هذا الوقت الحاسم.