تنفّس كثير من الوسطاء والدول المعنية بإنهاء الحرب الإسرائيلية الهادفة إلى إبادة غزة وبدء إعادة إعمارها الصعداء عندما أعلن استبعاد رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، أحد أكثر الوجوه إثارة للانقسام في الدبلوماسية الدولية، من «مجلس السلام» المقترح المكلف بالإشراف على المرحلة الانتقالية في القطاع. جاء الإعلان في لحظة بالغة الحساسية، مع دخول المفاوضات مرحلتها الثانية التي تركز على الترتيبات الأمنية والاقتصادية اللازمة لتثبيت الأوضاع وإطلاق جهود الإعمار.
أعطت قرارات مجلس الأمن الدولي، وبخاصة القرار رقم 2803 الذي اعتمد في 17 نوفمبر 2025، تفويضاً دولياً لتشكيل مجلس سلام انتقالي ونشر قوة استقرار ووضع إطار زمني يمتد حتى نهاية 2027. ومع بلورة هذه الهيكلية الانتقالية الجديدة، بدا دور بلير المنتظر مصدر قلق عميق لدى كثير من الأطراف.
منذ أن دخلت إدارة ترامب في مساعي إنهاء الحرب، تداولت خطط عدة، لكن المخطط المنسوب إلى بلير بدا الأقرب إلى رؤية ترامب وربما ساهم في تشكيل بعض عناصر الخطة التي أعلن عنها أواخر سبتمبر، وهو ما أعاد إشعال الجدل: لماذا يُنظر إلى وضع بلير في موقع حاسم كهذا باعتباره خطأ جسيمًا؟
يرتبط إرث بلير السياسي بقرارٍ اعتبره الكثيرون أسوأ سياسة خارجية في القرن الحادي والعشرين: غزو العراق عام 2003، الذي دعمّه إلى جانب الرئيس الأمريكي آنذاك جورج دبليو بوش تحت ذريعة وجود أسلحة دمار شامل، كما كشفت لاحقاً لجنة تشيلكوت في المملكة المتحدة. دمر هذا الحرب العراق، وأشعل صراعات طائفية، وفتح الباب لتدخلات أجنبية امتدت سنوات، وأسفر عن مقتل مئات الآلاف من العراقيين. وبالنسبة لقطاعات واسعة في المنطقة وخارجها، صار بلير رمزاً للسلطة غير المُحاسبة واتخاذ القرارات الكارثية.
في السياق الفلسطيني والعربي تبدو سِجلّات بلير أكثر إزعاجاً. فعندما شغل منصب مبعوث الرباعية لعملية السلام بين 2007 و2015، اتُهم على نطاق واسع بتقوية سياسات إسرائيل وتمكين تطبيع الحصار على غزة، والسماح لإسرائيل بالتحايل على التزاماتها بموجب أُطر السلام. ورغم أن ولاية الرباعية كانت تهدف لدعم المفاوضات وتعزيز التنمية الاقتصادية وإعداد مؤسسات تمهيداً للدولة، فقد فشلت هذه الأهداف في إحراز تقدم ذي بال خلال عهدته، بينما تصاعدت وتيرة التوسع غير القانوني للمستوطنات وتعمّق الاحتلال.
الأثر الأكثر شمولاً كان قرار الرباعية، بعد فوز حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006، بفرض عقوبات سياسية واقتصادية واسعة على الحكومة الجديدة. اشتراطات رفع الحصار بامتثال حماس للاعتراف بإسرائيل والتخلي عن المقاومة المسلحة أدت إلى عزلة طويلة الأمد على غزة، وضربت النسيج السياسي الفلسطيني وعمّقت الانقسام الذي ما زالت آثاره قائمة حتى اليوم.
في سنوات عمله كمبعوث مرّت على غزة أربع حملات إسرائيلية مدمرة، من بينها عملية «الرصاص المصبوب» 2008–2009، من أشرس الحملات العسكرية في تاريخ القطاع خلال توقيته. ورغم ذلك لم يسجل بلير أي اختراق سياسي فعلي. والتحقيقات الصحفية البريطانية كشفت تضارب مصالح خطيراً، تشير إلى أنه استثمر دوره لدى الرباعية لتسهيل صفقات تجارية لشركات مرتبطة به، محققاً ملايين الجنيهات بينما لم يواكب ذلك إنجاز دبلوماسي مرموق. وظهرت تقارير متعددة تفيد بأنه لم يكن مكرّساً بالكامل لمهامه كمبعوث، بل قضى وقتاً كبيراً في عمله الاستشاري الخاص وإلقاء محاضرات مدفوعة الأجر.
في 2011 عارض بلير علناً طلب فلسطين الحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة، واعتبره خطوة «تصعيدية»، وبحسب ما أُبلغ فقد ضغط على حكومة المملكة المتحدة لوقف الدعم. وبعد سنوات، اعترف في 2017 بأنه وقيادات دولية أخرى أخطأوا في فرض عزلة فورية على حماس بعد فوزها الانتخابي—اعتراف جاء متأخراً بعدما تكبدت غزة آثار تلك السياسة على المدى الطويل.
لهذه الأسباب، تعامل الفلسطينيون والدول العربية والمانحون مع احتمال إشراك بلير في مجلس السلام المرتقب بشكوك عميقة. فبحكم سجله السياسي وتوافقه الظاهر مع مواقف إسرائيل وادعاءات الاستفادة المادية، يُنظر إليه ليس كعنصر حيادي لإرساء الاستقرار بل كعائق قد يقوض الثقة الهشة اللازمة لأي عملية انتقالية.
إقصاؤه خطوة إلى الأمام، لكنها غير كافية بحد ذاتها. الاختبار الحقيقي يكمن في ما إذا كانت شركته الاستشارية وشبكاته المرتبطة بها ستُستبعد أيضاً، أم أن رحيله سيقتصر على مستوى الاسم فقط. إذا غادر بلير ظاهرياً بينما ظل تأثير مؤسسه ودوائره يعمل خلف الكواليس، فستبقى مخاطر عملية السلام كبيرة.
الفصل القادم لغزة لا يحتمل رمزية بلا مضمون أو إجراءات ناقصة. التحديات المقبلة—من ترسيخ إدارة حاكمة وإعادة إعمار أرض مدمرة إلى إحياء مسار قابل للحياة نحو حل الدولتين—تستدعي شخصيات ذات مصداقية وشفافية وسجلات سياسية نظيفة. بلير لا ينطبق عليه هذا الوصف. وإقصاؤه، إن كان حقيقياً، ليس مجرد تعديل إداري بل تصحيح ضروري لسنوات من سوء الإدارة والدبلوماسية الفاشلة وقرارات تكبد الفلسطينيون ثمنها أكثر من غيرهم.