استقالة خامس رئيس وزراء فرنسي خلال ثلاث سنوات — هل ينجو ماكرون؟ وما الخيارات المقبلة؟

استقالة سيباستيان ليكورنو تُعمّق المأزق السياسي في فرنسا

أقدم رئيس الوزراء الفرنسي سيباستيان ليكورنو على الاستقالة بعد ساعات قليلة من تشكيله للحكومة، مما أدخل المشهد السياسي الفرنسي في مأزق أشد في وقت تكافح فيه باريس لاحتواء ديون متزايدة. كانت مدة توليه المنصب، التي انتهت يوم الإثنين، الأقصر في التاريخ الحديث لفرنسا، واتّهم فيها ليكورنو سياسيين من المعارضة برفض التعاون بعدما سحب شريك تحالف رئيسي دعمه للحكومة. ينضم ليكورنو إلى لائحة متصاعدة من رؤساء الوزراء الفرنسيين منذ العام الماضي الذين تسلموا المنصب ثم قدموا استقالاتهم بعد فترة وجيزة.

تصاعدت الضغوط على الرئيس إيمانويل ماكرون من أحزاب المعارضة داخل البرلمان المنقسم، التي طالبت بإجراء انتخابات مبكرة أو حتى باستقالة ماكرون، كما أبدى بعض من حلفائه ضغطاً مماثلاً. ورأى محللون أن محاولة تعيين ليكورنو كانت تُعدّ بمثابة «الرصاصة الأخيرة» لماكرون لحل الأزمة السياسية المطولة.

ماذا حدث؟
استقال ليكورنو ووزراؤه صباح الإثنين بعد أن أعلن تشكيل حكومة جديدة في اليوم السابق. تولى المكتب في 9 سبتمبر بعد استقالة سلفه فرانسوا بايرو؛ وبذلك انتهت ولايته بعد 27 يوماً، وهي الأقصر منذ تأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958. كان ليكورنو خامس رئيس وزراء منذ 2022، وثالث واحد منذ أن دعا ماكرون إلى انتخابات مبكرة في يونيو من العام الماضي. شغل أيضاً منصب وزير القوات المسلحة من 2022 حتى الشهر الماضي.

في خطاب تلفزيوني عاطفي صباح الإثنين، حمّل ليكورنو قادة سياسيين من مختلف الأطياف السياسية مسؤولية فشل التوصل إلى تسوية. قال الحليف البالغ من العمر 39 عاماً لماكرون: «لم تُستكمل الشروط التي تسمح لي بممارسة مهامي كرئيس حكومة»، وأضاف أن الأمور كان يمكن أن تنجح لو تَحَلّى بعضهم «بالنكران الذاتي». وختم قائلاً: «يجب دائماً أن نضع الوطن قبل الحزب».

سعى ماكرون، في مسعى أخير للبحث عن استقرار، إلى أن يبقى ليكورنو على رأس حكومة مؤقتة حتى الأربعاء لإجراء «مفاوضات نهائية» مع القوى السياسية من أجل الاستقرار. وبقيت تفاصيل هذه المحادثات غير واضحة، ولا يزال احتمال بقاء ليكورنو في المنصب بعد هذه الجولة قائماً. ونشَر ليكورنو لاحقاً على منصة “إكس” أنه قبل عرض ماكرون لإجراء مناقشات نهائية من أجل استقرار البلاد، وأنه سيعرض نتائجها على الرئيس مساء الأربعاء ليستخلص الأخير «استنتاجاته الخاصة».

يقرأ  اختفاء طفل يبلغ من العمر ست سنوات منذ أكثر من أسبوع أثناء سيره مع عائلته السلطات: فرصة بقائه على قيد الحياة أقل من خمسة بالمائة

وصف خبير شؤون فرنسا، يعقوب روس من المجلس الألماني للعلاقات الخارجية في هامبورغ، اتفاقية الحكومة المؤقتة بأنها «غريبة» حتى وإن كانت قانونية، وأكّد أنها تجسّد يأس ماكرون في الظهور بمظهر المتحكم بينما تتضاءل خياراته. وأضاف روس أن ذلك يؤكد الرواية القائلة إن ليكورنو كان «الرمق الأخير» لماكرون لحل الأزمة.

لماذا استقال ليكورنو؟
يمثل البرلمان الفرنسي منقسماً بشدة ما يجعل الوصول إلى إجماع أمراً بالغ الصعوبة. الأحزاب اليمينية المتطرفة واليسارية معاً تملكان أكثر من 320 مقعداً في المجلس الأدنى المكوّن من 577 مقعداً، وتربطهما عداء متبادل. بينما يملك التحالف الوسطي والمحافظ لماكرون 210 مقاعد فقط؛ لا يوجد أي حزب يمتلك أغلبية مطلقة.

فور تشكيله للحكومة، خسر ليكورنو دعم حزب الجمهوريين (LR) الذي يملك 50 مقعداً، بسبب اختياره برونو لو مير وزيراً للدفاع — وهو وزير المالية السابق. أعلن رئيس LR برونو ريتايو على منصة X مساء الأحد أن حزبه ينسحب من التحالف لأنه «لا يعكس الانفصال الموعود» عن سياسات مؤيدي ماكرون التي كان ليكورنو قد وعد بالتحوّل عنها، وأضاف لاحقاً على قناة TF1 أن ليكورنو لم يبلغـه أن لو مير سيكون جزءاً من الحكومة.

يُنظر إلى لو مير على أنه من رموز السياسات الاقتصادية المؤيدة للخصخصة والتي يمثلها ماكرون، وليس التغييرات الجذرية التي وعد بها ليكورنو خلال أسابيع التفاوض التي سبقت تشكيل الحكومة. ويتهمه آخرون بتحمّل مسؤولية العجز المالي الكبير خلال فترته كوزير للمالية (2017–2024).

أثرت استقالة ليكورنو سلباً على الأسواق؛ فقد هبطت أسهم شركات فرنسية بارزة بنحو 2% على مؤشر CAC 40، قبل أن تشهد بعض التعافي لاحقاً. سيبقى الوزراء الذين كان من المقرر أن يشكّلوا الحكومة في مواقعهم بصفتهم حكماً مؤقتاً حتى إشعار آخر. وعبّرت أغنيس بانيي-روناشيه، التي كان مقرراً إعادة تعيينها وزيرة للبيئة، عن استيائها على منصة X قائلة: «أشعر باليأس من هذا السيرك حيث يؤدّي الجميع أدوارهم لكن لا أحد يتحمّل المسؤولية».

لماذا أصبحت السياسة الفرنسية غير مستقرة؟
تعود جذور المشكلة إلى الانتخابات المبكرة في يونيو 2024 التي أسفرت عن برلمان معلق يضم تكتلاً وسطياً لماكرون إلى جانب تكتلات يسارية ويمنى متطرفة. فشل ماكرون في حيازة أغلبية برلمانية، ومع وجود هذا التنوع العدائي داخل المجلس، اصطدمت حكومته بعقبات في تمرير السياسات.

يقرأ  لماذا تبدو أسواق غزة ممتلئة بينما نعاني الجوع؟— في سياق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

زاد من الطين بلّة محاولات ماكرون تطبيق إجراءات تقشفية غير شعبية لخفض العجز المتنامي الناتج عن الإنفاق المرتفع خلال جائحة كورونا. اقترح فرانسوا بايرو، الذي ترأس الحكومة من ديسمبر حتى سبتمبر، في يوليو حزمة تقشفية لخفض ما وصفه بـ«ديون تهدد الحياة» وخفض الإنفاق العام بمقدار 44 مليار يورو في 2026، تضمنت تجميد المعاشات ورفع ضرائب الرعاية الصحية وإلغاء يومَي عطلة لرفع النشاط الاقتصادي. واجهت هذه الإجراءات احتجاجات شعبية وبرلمانية واسعة، ورفض البرلمان مقترحات بايرو في سبتمبر، منهياً بذلك فترة تسعٍة أشهر له في المنصب.

تنازل ليكورنو عن بند إلغاء العطلات ووعد بمهاجمة الامتيازات مدى الحياة التي يتمتع بها بعض الوزراء. تفاوض مع كل تكتل على حدة لمدة ثلاثة أسابيع أملاً في تجنب تصويت بحجب الثقة، لكن فشل في كسب الدعم الكافي قبل أن تنهار التشكيلة الحكومية. البرلمانالمقسم والتجاذبات السياسية وأزمة الديون وخيارات التقشف كلها عوامل جعلت المشهد السياسي الفرنسي هشاً ومعرضاً لمزيد من الصدمات في قادم الأيام. بحلول يوم الاثنين، بدا جلياً أن نهجه لم يُفلح.

لقد تصاعد سخط الرأي العام تجاه ماكرون منذ فرضه ضرائب أعلى على الوقود عام 2018 — ثم تراجع عنها لاحقاً بعد احتجاجات واسعة. وفي أبريل 2023 أثار مرة أخرى سخطاً شعبياً عندما أقرّ إصلاحاتٍ تقضي برفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً؛ ولم تُلغَ تلك السياسة رغم احتجاجات واسعة قادتها النقابات. حالياً، وصلت شعبية الرئيس الفرنسي في استطلاعات الرأي إلى أدنى مستوياتها القياسية.

«هناك غضب خامل في القاعدة الانتخابية، وشعور بأن السياسيين يلهون بالملف، وجزء كبير من الناخبين الفرنسيين مصدوم ومنفر»، قال روس. «خوفي أن يكون هذا وضع انطلاق قد يشجّع المطالبة بانتخابات جديدة، وربما استفتاء حول قضايا مثل الهجرة وحتى بقاء فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي.»

الرئيس إيمانويل ماكرون يتحدث إلى أعضاء الإعلام في قمة الاتحاد الأوروبي في كوبنهاغن، الدنمارك، في 2 أكتوبر 2025 [ليونارد فوغر/رويترز]

ما الذي ينتظر ماكرون؟

يقرأ  اليابان: ثلاثة رؤساء وزراء خلال خمس سنوات

ماكرون، الذي من المقرر أن يبقى في منصبه حتى أبريل 2027، يزداد ضغطاً. تستغل قوى المعارضة استقالة ليكورنو، ويتباعد أنصاره عن هذا الملف علناً في محاولة لتحسين مراكزهم قبل الاستحقاقات القادمة، بحسب محللين.

حزب «التجمع الوطني» المعادي للهجرة وللاتحاد الأوروبي دعا يوم الاثنين ماكرون إلى الدعوة لانتخابات أو الاستقالة. وقالت زعيمة الحزب مارين لوبان للصحفيين: «هذا يطرح سؤالاً أمام رئيس الجمهورية: هل يمكنه الاستمرار في مقاومة حل الهيئة التشريعية؟ لقد بلغنا نهاية الطريق. لا حل آخر؛ المسلك الوحيد الحكيم في هذه الظروف هو العودة إلى صناديق الاقتراع.» ويتوقع أن يحقّق الحزب مكاسب مقعدية في حال جرت الانتخابات.

وجاءت دعوات مماثلة من اليسار، حيث طالب أعضاء حزب «فرنسا المتمردة» برحيل ماكرون.

الرئيس، الذي لم يُدْلِ بتصريح عام لكن رُصد وهو يمشي وحيداً على ضفة نهر السين يوم الاثنين بحسب وكالة رويترز، يبدو معزولاً حتى داخل معسكره. غابرييل أتال، رئيس الوزراء من يناير حتى سبتمبر 2024 ورئيس حزب «النهضة» المرتبط بماكرون، قال في قناة TF1 إنه بات لا يفهم قرارات ماكرون وأن «حان وقت تجربة شيء آخر».

إدوار فيليب، الحليف البارز لماكرون ورئيس الحكومة بين 2017 و2020، دعا أيضاً إلى تعيين رئيس حكومة مؤقت ثم الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، خلال حديثه في إذاعة RTL الفرنسية. فيليب، المرشح في انتخابات 2027 على رأس حزبه الوسطي «هورايزون»، انتقد ما وصفه بـ«اللعبة السياسية المؤلمة» وقال إن فرنسا تحتاج إلى «الخروج من الأزمة بطريقة منظمة وكريمة لأنها تضرّ بالبلاد». وأضاف: «ثمانية عشر شهراً إضافية من هذا الوضع طويلة جداً».

«الناس يتكهنون بجدية بأنه قد يستقيل، وأن حلفاءه باتوا ينظرون إليه على أنه ثقل سياسي»، قال روس.

ولدى ماكرون، وفق تحليله، ثلاث خيارات: تعيين رئيس وزراء آخر قد يواجه صعوبة في نيل إجماع برلماني، أو الاستقالة، أو الأكثر احتمالاً الدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة — التي قد تفشل بدورها في إنتاج حكومة أغلبية. وكل خيار يحمل تحدياته للرئيس، مع العلم أن ماكرون استبعد مراراً الخيار الأخير. الأزمة، كما أضاف روس، تؤثر أيضاً في مكانة الرئيس الدولية كرئيس لدولة هي ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي.

أضف تعليق