إسلام آباد، باكستان — خلُص تَقييمٌ جديد صادر عن صندوق النقد الدولي إلى أن الفساد في باكستان يقف وراء أزمة اقتصادية ناجمة عن ما يعرف بـ«استحواذ الدولة» (state capture)، حيث تُستغل السياسات العامة لخدمة دائرة ضيقة من النخب السياسية والاقتصادية.
تقرير التشخيص للحكم والفساد (GCDA)، الذي أُنجز في نوفمبر 2025، يرسم صورة قاتمة لنظام تتسم مؤسساته بالخلل والعجز عن تطبيق حكم القانون أو حماية الموارد العامة.
تقرير من 186 صفحة يرى أن الفساد في باكستان «مستمر ومُتآكل»، يحرّف الأسواق ويقوّض ثقة الجمهور ويهدّد الاستقرار المالي. وحذّر التقرير — الذي طُلِبَ من صندوق النقد الدولي بطلب من الحكومة الباكستانية — من أن الركود الاقتصادي سيستمر ما لم تُفكّك هياكل «امتياز النخبة».
رغم أن نقاط الضعف المرتبطة بالفساد حاضرة في كل مستويات الحكومة، يشير التقرير إلى أن «أكثر المظاهر ضرراً على الاقتصاد تتجسّد في جهات مميزة تتمتع بتأثير على قطاعات اقتصادية رئيسية، بما في ذلك مؤسسات مملوكة أو متصلة بالدولة».
ويُضيف التقرير أن باكستان ستحصد فوائد اقتصادية كبيرة إذا ما تحسّن الحوكمة وتعزّزت مساءلة المسؤولين. مثل هذه الإصلاحات، كما يقول التقرير، يمكن أن ترفع الناتج المحلي الإجمالي بشكل ملحوظ؛ فقد بلغ الناتج نحو 340 مليار دولار في 2024.
وأشار صندوق النقد إلى أنه اعتماداً على تحليلات مقارنة لتجارب الإصلاح في أسواق ناشئة، يمكن أن تُحقّق باكستان زيادة في الناتج المحلي الإجمالي تتراوح بين 5 و6.5 في المئة خلال خمس سنوات إذا نُفّذّت حزمة إصلاحات حوكمة.
ستيفان ديركون، أستاذ سياسة اقتصادية في جامعة أوكسفورد ومستشار للحكومة الباكستانية بشأن الإصلاحات الاقتصادية، اتفق مع أن غياب المساءلة في قضايا الفساد يُقضي على الإمكانات الاقتصادية للبلاد. وقال إن «فشل التنفيذ [للقوانين ومبادئ المساءلة] يمنح المصالح المتحكمة حرية مفرطة، ويجب أن تكون مواجهة ذلك في صلب جهود الإصلاح الاقتصادي».
ماذا نعرف عن التقرير؟ وما نقاط الضعف التي أضاء عليها؟ وما التوصيات السياسة التي طرحها؟ وماذا يقول الخبراء؟
موقع باكستان لدى صندوق النقد
اتجهت باكستان إلى صندوق النقد 25 مرة منذ 1958، مما يجعلها من أكثر دول الصندوق استعانةً به. وقد لجأت إليها كل إدارة تقريباً، عسكرية كانت أم مدنية، في ظل أزمات ميزان مدفوعات متكررة.
بدأ البرنامج الحالي في عهد رئيس الوزراء شهباز شريف. وإصدار تقرير GCDA يأتي قبل موافقة مجلس إدارة صندوق النقد المتوقعة على صرف 1.2 مليار دولار الشهر المقبل، كجزء من برنامج ممتد لمدة 37 شهراً بقيمة 7 مليارات دولار.
نجت باكستان بصعوبة من التخلف عن السداد في 2023 بعد أن مدد الصندوق صفقة سابقة لمدة تسعة أشهر، تلتها الاتفاقية الجارية.
بصمات الاستحواذ وامتياز النخبة
يشير التقرير إلى أن باكستان تحتل مراكز متدنية باستمرار في مؤشرات الحوكمة العالمية. خلال الفترة 2015–2024، ظل مؤشر «التحكم بالفساد» راكداً، ما وضع البلاد من بين الأسوأ أداءً على مستوى العالم وفي منطقتها.
في جوهر نتائج الصندوق مفهوم «استحواذ الدولة»، إذ يتحوّل الفساد إلى قاعدة عمل وأداة إدارة أساسية. ويورد التقرير أن أجهزة الدولة غالباً ما تُستغَل لإثراء مجموعات محددة على حساب الجمهور العام.
ويُقدّر التقرير أن «امتياز النخبة» — المتمثل في الوصول إلى الدعم، والتسهيلات الضريبية، وعقود الدولة المربحة لفئة محدودة — يستهلك مليارات الدولارات من الاقتصاد سنوياً، بينما تُقصي الممارسات مثل التهرب الضريبي واحتواء الجهات الرقابية الاستثمار الخاص الحقيقي.
تتطابق هذه النتائج مع تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي صدر عام 2021، الذي قدّر أن الامتيازات الاقتصادية الممنوحة إلى مجموعات نخبوية، بينها سياسيون وجنرالات ذوو نفوذ، تُشكّل نحو 6 في المئة من اقتصاد البلاد.
الجامعة والحصانة والجهات المميزة
أشار التقرير إلى أن النفقات الضريبية، بما في ذلك الإعفاءات والتخفيضات الممنوحة لقطاعات نافذة مثل العقارات والتصنيع والطاقة، كلفت الخزانة 4.61 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2023 وحدها.
وطالب بوقف المعاملة التفضيلية للجهات العامة النافذة في عقود الحكومة، ودعا إلى مزيد من الشفافية في عمل مجلس تيسير الاستثمارات الخاص (SIFC). أُنشئ هذا المجلس في يونيو 2023 خلال الولاية الأولى لشريف، وهو هيئة رفيعة المستوى تضم قادة مدنيين وعسكريين وتهدف إلى تشجيع الاستثمار عبر تذليل عقبات بيروقراطية. ومع تقديمه كرؤية مشتركة بين الحكومة والجيش، تعرّض لانتقادات متواصلة بسبب غياب الشفافية.
ووصَف التقرير الحصانات القانونية الواسعة الممنوحة لمسؤولي SIFC، كثيرون منهم من القوات المسلحة، بأنها مصدر قلق حوكمي كبير، محذراً من أن هذه الحصانات، مع سلطة المجلس في إعفاء مشاريع من متطلبات تنظيمية، تخلق مخاطر جوهرية. وأوصى بتقديم مجلس SIFC تقارير سنوية مفصّلة عن جميع الاستثمارات التي سهّلها، بما في ذلك التنازلات الممنوحة وأسبابها، لتفادي غياب ال�شفافبة.
القضاء وسيادة القانون
عرّف التقرير القضاء كعقبة حرجة أخرى. النظام القضائي في باكستان مُثقل بأكثر من مليوني قضية معلقة. وفي 2023 ارتفع عدد القضايا غير المنتهية أمام المحكمة العليا بنحو 7 في المئة.
وعلى مدى الاثني عشر شهراً الماضية أُقِرَّ تعديلان دستوريان أثارا ردود فعل عنيفة من أوساط قانونية معتبرة أنهما يمثلان «تنازلاً دستورياً». بإيجاز، أحدثت التعديلات هيئة دستورية موازية على المستوى الفدرالي ترى فيها أصوات معارضة أنها تقلّص من سلطات المحكمة العليا، كما غيّرت قواعد تعيين ونقل القضاة بطرق يرى الخصوم أنها قد تمنح السلطة التنفيذية سيطرة واسعة على من يُرتّقَ ومن يُعاقَب. من جانبها، تصرّ الحكومه على أن هذه التغييرات هدفت إلى تحسين كفاءة وفاعلية الجهاز القضائي.
تواجه كذلك مؤسستان رئيسيتان للتحقيق في الفساد — جهاز المُساءلة الوطنية (NAB) ووكالة التحقيقات الفدرالية (FIA) — تحديات مصداقية مماثلة. يستشهد تقرير GCDA بفريق عمل حكومي في 2024 خلص إلى أن NAB تجاوزت أحياناً ولايتها وفتحت قضايا بدوافع سياسية؛ وهذه المحاسبة الانتقائية، وفق التقرير، أضرت بثقة الجمهور وخلقت مناخاً من الخوف داخل البيروقراطية أبطأ اتخاذ القرار.
ورغم إعلان NAB أنها استردّت 5.3 تريليون روبيه (نحو 17 مليار دولار) بين يناير 2023 وديسمبر 2024، يشير التقرير إلى أن معدلات الإدانة ما تزال منخفضة. ويدعو التشخيص إلى إصلاحات جذرية في آليات التعيين داخل NAB لضمان الاستقلالية، والتحول من «الاستهداف السياسي» إلى «إنفاذٍ قائم على القواعد».
هل كان التقرير ضرورياً؟
يُفصّل صندوق النقد الدولي إصلاحات اعتبرها خبراء شاملة إذا ما تبنّتها السلطات، لكن المحلّلين يشيرون إلى أن مؤسسات دولية وباحثين محليين كرّروا ملاحظات مماثلة سابقاً من دون متابعة جادة من الحكومة. يقول ساجد أمين جاويد، كبير الاقتصاديين في معهد سياسات التنمية المستدامة (SDPI) في إسلام آباد، إن كون باكستان تحت برنامج صندوق النقد قد يجبر الحكومة على التعامل بجدية أكبر مع النتائج. وأضاف أن تقرير الصندوق كان يمكن أن يذهب أبعد بالاعتراف بأن كثيراً من توصياته تكررت من الآخرين «دون أن تُحدث تغييراً»، وربما كان التقييم ينبغي أن يستقصي أسباب هذه الإخفاقات.
رحّب جاويد بمحاولة التقرير قياس الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الفساد أملاً بأن يضغط ذلك صُنّاع القرار على التحرك. «الفساد والحوكمة مرتبطان ببعضهما ارتباطاً عضوياً. فالفساد يقوّض الحوكمة، والحوكمة الضعيفة تغذي الفساد، ما يجعلهما توأمين»، قال ذلك. أما حسنن فقد بدا أكثر تشككاً، متسائلاً لماذا انتظر الصندوق طلباً رسمياً من الحكومة الباكستانية رغم امتلاكه آليات داخلية للتقييم.
ماذا يمكن أن تفعل الحكومة؟
يرى المحلّلون أن المشهد الاقتصادي لباكستان تشكّل زمنياً بفعل فاعلين ذوي صلات سياسية يحظون بامتيازات في الوصول إلى الأراضي والائتمان والتعريفات والإعفاءات التنظيمية، وأن ملاحظات صندوق النقد ليست جديدة. يؤكد حسنن أن الفساد — بما في ذلك انتزاع النخبة لأسواق وهيئات تنظيمية وسياسات عامة — ظاهرة سياسية بالأساس ولا يمكن معالجتها دون إصلاحات أعمق: «بدون صحوة سياسية أوسع، ستبقى إصلاحات الحوكمة حلولاً تقنية على أسس هشة. في النهاية، تُفسَح مساحة انتزاع النخبة فقط عندما تتغير الحوافز السياسية».
من جهته، لفت جاويد إلى ما أسماه «احتكار تصميم السياسات»، مؤكداً أن من يتولى صياغة إصلاحات الحوكمة ومكافحة الفساد غالباً ما يكون جزءاً من نفس منظومة النخبة. «قد يكون احتكار النخبة لتصميم السياسات المكوّن الأهم الذي يسمح بالاستحواذ النخبوي. توصيات التقرير توضح أننا بحاجة إلى أساليب مشاركة وشاملة للخروج من مأزقنا الراهن».
أشدّ الإصلاحات إلحاحاً لدى حسنن هو خطة إنعاش اقتصادي موحّدة تكون مملوكة بالكامل من قبل رئيس الوزراء ومُبلّغَة بوضوح. فالمشهد الاقتصادي، كما قال، مُبعثر بـ«لجان ومجالس وفرق عمل ووزارات متداخلة» كلٌ منها ينتج وثائق دون محاسبة. «ينبغي على الحكومة دمج هذه الهياكل المتفرقة في منصة إصلاح واحدة واضحة ذات أولويات محددة وجداول زمنية ونتائج قابلة للقياس. يُنشر التقدّم شهرياً، ويُناقش علناً، ويخضع لرقابة مستقلة». وأضاف أن هذا الدمج سيحسّن التنسيق ويبني ثقة الجمهور ويبعث إشارة جدّية إلى المستثمرين.
أما الأولوية الفورية لدى جاويد فتكمن في إصلاح نظام المشتريات العامة الذي ينظم كيفية شراء الجهات الحكومية السلع والخدمات بأموال عامة: «نظامنا للمشتريات لا يعمل وفق مبدأ قيمة المال بل يركّز على كمية المال، حيث يفوز أقلّ العارضين سعرًا»؛ وهذا ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى منح العقود لمن ليسوا الأكفأ لتنفيذ المطلوب. «هذا النظام بحاجة إلى تحديث عاجل». وختم قائلاً إن الإدراك العاجل بضرورة إصلاح الإطار الاقتصادي برمّته أمر لا مفرّ منه إذا أردنا اقتصاداً مزدهراً وشفافاً.