التهجير من جديد؟ انقسام العائلات في غزة بين البقاء والمغادرة أخبار الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني

مدينة غزة — في خيمة خانقة على شاطئ الميناء، تستعد إيمان الراحل، البالغة من العمر 45 عاماً، لإطعام عائلتها في وقت الظهيرة.

ترسل ابنها يزن (13 عاماً) ليحضر الطعام من التكّية القريبة، أو المطبخ المجتمعي.

«أعتقد أنهم سيقدّمون الأرز اليوم»، تهمس لابنتها، مع ابتسامة باهتة تخفف من تعب وجهها.

لكن تلك الابتسامة تتلاشى سريعاً عندما يتحوّل الحديث إلى موجة نزوح أخرى محتملة بعد إعلان إسرائيل الأخير عن نيتها الاستيلاء على مدينة غزة.

«اللهم لا»، تقول وهي تضغط يدها على صدرها. «أدعو بأن لا يحدث ذلك، وأن لا نُجبر على التوجه نحو الجنوب.»

مع ذلك، تؤكد ايمان أنها إذا صدر أمر رسمي بالإخلاء من إسرائيل، ستكون من أوائل المغادرين إلى جنوب غزة «دون تردد».

عائلة الراحل منقسمة حول البقاء في شمال غزة أو الرحيل. من اليمين إلى اليسار: عبد الله (23 عاماً)، محمد (17 عاماً) الذي جرح أثناء طلبه للمساعدة الأسبوع الماضي، الأم إيمان، زوجة عبد الله سجا (21 عاماً)، وغدير (24 عاماً) مع ابنتها أيّلول البالغة من عامين.

بقيت الأم لخمس أطفال في بيت لاهيا شمال غزة أثناء الاقتحام الإسرائيلي في المراحل الأولى من الحرب التي اندلعت في أكتوبر 2023، متنقلة بعائلتها من ملجأ إلى آخر مع تقدّم الدبابات وتكثّف القصف.

«لا أستطيع أن أنسى لحظة من ذلك الوقت»، تقول إيمان بهدوء. «في بيت لاهيا، كانت المدرسة التي كنا نتحصّن فيها محاصرة بالدبابات والقنّاصين في ديسمبر الماضي. أصيب ولدي عبد الله (23 عاماً) بطلق في العنق في ذلك الوقت، وكذلك زوجي. كادوا أن يفقدوا حياتهم قبل أن يسمحوا لنا أخيراً بالانتقال إلى غرب مدينة غزة.»

«رأيت قتلًا وإعدامات وقنصًا واعتقالات وأطرافًا متناثرة وقصفًا وهجمات مستهدفة»، تضيف بمرارة. «هناك أمور أستطيع أن أصفها، وأخرى أعجز عن البوح بها.»

لم تكن مسألة البقاء مسألة تفادي القنابل والقناصة فحسب، بل أيضاً البحث عن ما يسد رمق العائلة فيما تصعّب إسرائيل دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة.

«كنا نجمع الأعشاب والبرية وورق الخبيزة من الحقول ونطبخها للأطفال. كان ذلك طعامنا الوحيد، إلى جانب علف الحيوانات المطحون أو الشعير كبديل لدقيق القمح عندما يتوفر»، تتذكر.

يقرأ  حزب الله: خطة نزع سلاح لبنان تصبّ في مصلحة إسرائيل — نؤكّد تمسّكنا بأسلحتنا

موقفٌ لا تريد إيمان أن تعيشه مجدداً.

«شعرت بندم وذنب هائلين تجاه أطفالي وزوجي لأنني أصرت على البقاء في الشمال بدل الإخلاء إلى الجنوب»، تقول بابتسامة حزينة.

«لن أكرر تلك التجربة. إذا حصل نزوح جديد، سأغادر فورًا دون تردد.»

من المستحيل الذهاب جنوباً

لكن ليس كل شخص في عائلة الراحل متفقاً معها.

تقاطع الابنة الكبرى غدير الراحل (24 عاماً) الحديث قائلة: «لن أذهب إلى الجنوب مجدداً. مستحيل.» تصرّ بحزم. «يمكنكم الذهاب، لكني سأبقى هنا في الشمال مهما حصل.»

غادرت غدير مع زوجها وطفلتها الرضيعة إلى الجنوب أوائل نوفمبر 2023.

تلامس كلماتها نقاشاً دائماً بين الفلسطينيين في غزة، حتى داخل العائلات: يرى بعضهم أن أفضل فرص النجاة تكمن في الابتعاد عن مناطق العمليات العسكرية، بينما يشير آخرون إلى أن الانتقال إلى مناطق أخرى لا يضمن السلامة بالضرورة، ويجعل من الصعب الحصول على مأوى لائق وغذاء ومياه.

يتحدث كل فرد من العائلة من منطلق تجربته الخاصة التي شكلت وجهة نظره.

«لم تعيشي فظائع البقاء في الشمال. لو عشتها لما فكرتي في البقاء»، تقول إيمان لابنتها.

ترد غدير فوراً: «وأنتِ يا أمي، وأبي وإخوتي، لم تختبروا مرارة النزوح: التنقل من مكان لآخر، العيش في مخيمات ومناطق جنوبية مجهولة بلا ماء ولا طعام، في ظروف لا تُطاق.»

تواصل غدير محاولة إقناع بقية العائلة: «هربنا من بيت أهل زوجي في شمال غزة تحت القصف. عبرنا حاجز الاحتلال على طريق صلاح الدين ونحن رافعو الأيادي، والدبابات أمامنا. ذهبنا إلى خان يونس، فأُعلن إخلاؤها. ثم إلى رفح، ثم أُعلنت مُخلّاة أيضاً. ثم إلى المواسي في خان يونس.»

«كانت إذلالاً ومعاناة تفوق الوصف»، تضيف. «في رفح كان الاكتظاظ لا يُطاق. خيمتي كانت في وسط الشارع لأن لا مكان آخر. ومع ذلك هطلت الأمطار وزاد البرد وقلّ الطعام والماء.»

انهمرت غدير بالبكاء وهي تتحدث عن شعورها بالعزلة، وانقطاع التواصل مع عائلتها في الشمال لأكثر من ثلاثة أشهر بين ديسمبر 2023 وفبراير 2024، عندما انهارت شبكات الاتصالات.

يقرأ  ينسب إلى نفسه الفضل في عمليات قادتها قوات الدفاع الإسرائيلية

«رضيعتي، كانت حينها ستة أشهر — وهي الآن تبلغ عامين — مرضت مرضًا شديدًا ودخلت المستشفى بمشاكل معوية»، تبكي غدير وهي تروي قصة ابنتها أيّلول.

«كنت بحاجة لوجود أمي وعائلتي بجانبي، لكنني كنت وحيدة ولا أعرف أخبارهم.»

«طوال تلك المدة كنت أدعو فقط أن أسمع أصواتهم، أن أراهم مجدداً، أن أعرف أنهم على قيد الحياة. لا أستطيع نسيان المعاناة التي عشتها وحيدة خلال النزوح»، تقول والدموع تنهمر من عينيها، فيما تجلس أمها صامتة مع بقية العائلة وتبدأ هي الأخرى في البكاء.

«لهذا السبب لن أذهب إلى الجنوب ثانيةً، مهما كان الوضع. أريد البقاء هنا»، تصر غدير بتحدٍ.

لا يفضي نقاش العائلة إلى حل. غدير مُصِرة على البقاء، بينما يُصر بقية أفراد العائلة على الإخلاء.

«المسألة ليست برغبتكِ وحدك. لن نتركك مهما كان. أنتِ قادمة معنا»، يقول شقيقها عبد الله.

لا ترد غدير، وتكتفي الأم بالدعاء والتضرع ألا يواجهوا نزوحاً جديداً أبداً.

«لقد اكتفينا. أين يذهب الناس؟ كيف يحتملون عذابات النزوح إلى الجنوب مرة أخرى؟ مجرد التفكير بذلك مُجنٍ»، تقول إيمان.

«اعتدنا على الكوارث، وعلى فكرة أن القادم أسوأ دائماً. لكن ندعو الله أن نبقى هنا في الشمال.» «لكن إذا اضطررنا تحت القصف والموت، فماذا نفعل؟»

عائلات منقسمة

هذا الانقسام بين إيمان وغدير يتكرر في كثير من بيوت غزة، حيث تتصارع الرغبة بين البقاء والمغادرة.

عبد الحميد ابو عودة، 71 عاماً، وزوجته ريم (50 عاماً) في جدال دائم مع أبنائهما الذين نزحوا نحو الجنوب في المرحلة الأولى من الحرب. أصرّ الزوجان على البقاء في منزلهما بمخيم جباليا قرب مدينة غزة، رغم أنهما حملا أولادهما وعائلاتهم على التوجه الى الجنوب.

«كنت أظن أن أحفادي صغار، وأنَّ أبنائي وبناتي ما زال لديهم مسؤوليات. أما أنا فعجوز، وليس معي إلا زوجتي. لماذا أهجر إلى الجنوب؟» يقول عبد الحميد للجزيرة وهو يستند إلى فرشة خارج خيمته مطلة على البحر.

يقرأ  سدّ الفجوات التعليمية: جسر الهوّة الرقمية في منظومة التعليم

لكن موقفه تغيّر لاحقاً، وانحاز إلى خيار أبنائه بالفرار نحو الجنوب إذا صدرت أوامر رسمية بذلك. «صحتي ليست على ما يرام. نحن بحاجة إلى رعاية، ونريد أن نكون قريبين من أولادنا. تركت القرار لهم؛ إن ذهبوا فسأذهب معهم».

يصف عبد الحميد شمال القطاع بأنه مكان لا يُحتمل: الانتقال من مراكز الإيواء إلى مدارس الأمم المتحدة كان تجربة مرهقة ومخيفة. «كان الوضع مرعباً، ونجونا بالكاد. دبابات، اجتياح بري، جوع، قناصة، اعتقالات. تكرار ذلك ليس بالأمر السهل. لو تكرر اليوم فسيكون أعنف وأكثر وحشية».

يتفق معه ابنه حسين (41 عاماً) الذي نزح مع عائلته وإخوته في أكتوبر 2023: «إذا أصدروا قرار الإخلاء سأغادر مرة أخرى. نحن مدنيون عزل. لا قوة لنا، لا أسلحة ولا دبابات لنقاتل بها». ويضيف بحزن: «نعم، التهجير أقسى ما مررت به. ذقته وعرفت مرارته. لكن ماذا أفعل؟ لا أريد أن أموت».

ومع ذلك، ترفض ابنته منال (38 عاماً) الاستسلام. «أنا من جهتي، أريد أن أموت هنا»، تقول منال، التي تروي للجزيرة أنها كانت تحلم بمغادرة غزة والهجرة قبل اندلاع الحرب. «كانت الحياة هنا عسيرة، وأردت الرحيل. نزحت أنا وإخوتي نحو الجنوب وكانت تجربة مرة». المرارة تلك هي التي جعلتها متمسكة بالبقاء الآن.

«أريد أن أرحل متى أختار أنا، أريد أن أقرر بنفسي البقاء في غزة أم المغادرة. سئمت أن يُجبرني الآخرون على الذهاب إلى حيث يملي عليهم» تقول منال، فتعمُّ الصمت العائلة، قبل أن يقاطعها والدها مازحاً: «حسناً، نرسل لكِ الآن إلى سويسرا؟» فينفجر الجميع ضاحكين.

يضحك عبد الحميد بسخرية مظلمة: «تقولون كأن إسرائيل تسأل عن رأينا أو تبالي برغباتنا. لو رأيتم دبابة في نهاية الشارع لتغيرت آراؤكم على الفور». ويستمر الضحك على حسّه السوداوي.

«كل ما نأمله ألا نواجه التهجير مرة أخرى. ظننا أن القصف كان الأسوأ، ثم جاء الجوع فظننا أنه الأسوأ، والآن هذا التهجير»، يختتم عبد الحميد. «لكننا الآن نقول: لن نتحمل أن نجبر على الفرار مرة أخرى، ويفضل بعضنا الجوع على التهجير».

أضف تعليق