الرجل الذي هزّ هيئة الإذاعة البريطانية — في عالم الإعلام

استقالات المدير العام لهيئة بي بي سي، تيم ديفي، ومديرة الأخبار ديبورا ترنيس على خلفية تعديل برنامج بانوراما لخطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب لعام 2021 أوقعت المذيع الوطني في المملكة المتحدة في واحدة من أعمق الأزمات في تاريخه.

لكن الفضيحة لم تنشأ من برنامج واحد أو زلة حكم فردية. قرب محور هذه الأزمة يقف روبي جيب، الرجل الذي أمضى أكثر من عقد وهو يشكّل التغطية السياسية لهيئة بي بي سي، متنقلاً بين المؤسسة الحكومية في داونينغ ستريت وهيئة الإذاعة، ويدفع مشروعاً حزبياً خاصاً به شوه صحافة المؤسسة في قضايا مثل البريكست، ترامب، وفي نهاية المطاف غزة.

شخصياً شهدت آثار هذا التأثير عندما أجّلت بي بي سي ثم أسقطت فيلمنا عن أطبّاء غزة. ما يحدث اليوم ليس حدثاً منعزلاً، بل انفجار لحملة طويلة من التدخّلات التي ظلت متخفية إلى أن خرجت إلى العلن.

جيب شخصية ضخمة في الكواليس العامة في بريطانا لزمن طويل، ولذا كان من المُريح أن يبدأ اسمه بالظهور والمناقشة علناً. حتى قبل فضيحة بانوراما والاستقالات التي تلتها، نادراً ما كان يخضع لتدقيق خارج أوساط السياسة والإعلام. والآن صار يتصدّر العناوين ويتعرّض لجدلٍ حاد على منصات التواصل، والناس يحاولون فهم كيف استطاع فرد غير منتخب أن يكتسب هذه الدرجة من النفوذ.

يصعب إيجاد من كان له تأثير أشمل على الحياة العامة البريطانية من دون مسؤولية محاسبية، سواء من داخل داونينغ ستريت أو داخل بي بي سي. كان جيب اليد الخفية الأكثر تأثيراً ــ وإن خفية ــ في سياسات البريكست والحزب المحافظ ودعم إسرائيل، متربّعاً على مؤسستين من أهم مؤسسات الأمة بصيغ مختلفة: رئيس فريق وستمنستر في بي بي سي، رئيس دائرة الصحافة في داونينغ ستريت، ثم عضو بارز في مجلس إدارة بي بي سي يؤثر في أخبارها. لم تتبدّل دوافعه أو أسلوبه بين تلك المناصب: كان يؤمن بقوة أنه وحده القادر على ضبط ما اعتبره «النخبة الليبرالية اليقظة» في البي بي سي وضمان الحياد. لكن في سعيه هذا دمّر أي مفهوم عن الحياد، فأوصل المؤسسة إلى الأزمة الراهنة، ومعركة قضائية تقدر بمليارات مع ترامب، وانهيار مصداقية تغطيتها لغزة.

بصفتي رئيس تحرير أخبار Channel 4 بين 2012 و2022، تعرفت على جيب منذ تعيينه سكرتيراً صحفياً في داونينغ ستريت عام 2017. بدا منذ البداية أنه يوجه التغطية السياسية بما يخدم مشروعه السياسي؛ قلل فوراً من وصولنا إلى الوزراء بينما ظل الوصول متاحاً بحرية لبي بي سي، وهو ما عكس العلاقات الوثيقة التي بنّاها عبر سنوات إشرافه على أجزاء من المخرجات السياسية للمؤسسة. كان معروفاً داخل بي بي سي بدعمه الطويل للبريكست، ما لا يثير الدهشة إذ عمل مع الحزب المحافظ بين 1997 و2002. سلوكه في داونينغ ستريت لم يختلف كثيراً عن سنواته في بي بي سي؛ تحوّل السيطرة المباشرة على المحتوى إلى مفاوضات حول منح الوصول، ما مكّنه من مواصلة تشكيل المشهد السياسي البريطاني، وكان طاقم السياسة في البي بي سي على اتصال دائم به.

يقرأ  نستله تُقيل مديرًا إثر علاقةٍ عاطفية مع موظفة

تدهورت العلاقة عام 2018 عندما كانت قناة Channel 4 أول من كشف فضيحة ويندرش: اكتُشف أن مئات المواطنين السود البريطانيين، أغلبهم قدم من الكاريبي قبل أكثر من خمسين عاماً، احتُجزوا وبُعيدوا ونُكبت حقوقهم القانونية ظلماً؛ وكان ذلك نتيجة سياسات نفذتها تيريزا ماي عندما كانت وزيرة للداخلية. بينما كنا نتابع قصص الضحايا المسنين، انفعل جيب بشدة. منع Channel 4 من إجراء مقابلات مع رئيس الوزراء ووزراء آخرين، وقال لمساعديه إننا «نُصرّ على أمر لا يهتم به أحد».

ثم وسّع الحظر ليشمل مؤتمر الحزب المحافظ، مستبعداً قناتنا من جولة المقابلات التقليدية مع رئيس الوزراء التي كانت تُمنح لعقود. كل المحطات الأخرى، بما فيها بي بي سي، وقّعت رسالة تحذّر من أن هذا الحظر يُشكّل سابقة خطرة. زميل سابق لجيب في بي بي سي أخبرني لاحقاً عند المؤتمر أنه «غضبان جداً، ساخط تماماً».

في ذلك الحين أخبرني عدد من صحفيي بي بي سي أن جيب ظل عملياً يوجّه أجزاء من التغطية السياسية للمؤسسة من داخل داونينغ ستريت مستخدماً نفوذه وعلاقاته الطويلة لتحديد ما يُنقل ومن يحصل على الوصول. كثيرون كانوا يواجهون صعوبة في التمييز بين جيب «في بي بي سي» وجيب «في داونينغ ستريت» لأن تأثيره ظل مستمراً على قرارات محورية. ومن أكبر مكاسب داونينغ ستريت كانت نفوذه على تغطية بي بي سي لما بعد البريكست؛ فالمؤسسة امتنعَت عن إعادة التحقيق فيما حدث خلال الاستفتاء، على النقيض من Channel 4 التي تابعت تحقيقات حول حملة Vote Leave وCambridge Analytica. وقال لي زملاء في البي بي سي إن هذا التردّد في التدقيق لم يكن جديداً بل كان انعكاساً لكيفية عمل جيب في لحظة اتخاذ القرار أثناء الحملة نفسها.

يقرأ  خافيير ميلي يحتفل بنصر منتصف الولاية ٢٠٢٥بينما تتعمق فضيحة «ليبرا»

في 2019 حصلنا على رسائل إلكترونية بين آرون بانكس، الممول الكبير للبريكست، وجيب أُرسلت في الأسابيع التي سبقت الاستفتاء. أظهرت الرسائل أن بانكس شكا لجيب من تحقيق بي بي سي في Leave ومحاولات الاتحاد الأوروبي بناء دعم داخل مجتمعات اليمين المتطرّف على الإنترنت وطلب تدخل جيب. بعد أن أثار بانكس مخاوفه لدى جيب، أُلغي التحقيق. قالت بي بي سي إن القصة لم تلبِ المعايير التحريرية، لكن بعد أسابيع نشرتها صحيفة The Sunday Times. أبلغ بانكس جيب أيضاً أن نايجل فاراج لا يظهر بما يكفي على بي بي سي، وفي الأشهر التالية ظهر فاراج مراراً في مخرجات المؤسسة.

بعد أن غادر جيب داونينغ ستريت مع تيريزا ماي في 2019، عيّنه بوريس جونسون في مجلس إدارة بي بي سي، وهو منصب مؤثر لم يُفترض به التدخل في قرارات التحرير اليومية. ومع ذلك ظهرت ادعاءات متكررة بأنه استمر في ذلك؛ محاولات لعرقلة تعيينات، زيارات إلى غرف الأخبار وتكرار التدخل في الشؤون التحريرية. في 2020 صار له حصّة مسيطرة في صحيفة Jewish Chronicle ــ أقدم صحيفة يهودية في العالم، وكانت تُعتبر صوت الجالية اليهودية البريطانية ــ نيابة عن داعمين لم تُكشف هوياتهم، وتحوّلت الصحيفة بعدها نحواليمين السياسي. استقال عدد من صحفييها المرموقين وسط اتهامات بتأثير بنيامين نتنياهو على تغطيتها. كل ذلك حدث بينما كان جيب، بصوته التحريري الأكثر خبرة في مجلس الإدارة، يُمارس نفوذاً متزايداً رغم قواعد المجلس التي تحظر التدخّل التحريري المباشر. العادات القديمة لم تمُت بسهولة.

بعد الهجوم الوحشي لحماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، والحملة الإسرائيلية المستمرة التي امتدت عامين على غزة وأسفرت عن تدمير واسع وقتل أكثر من 70 ألف شخص بينهم نحو 20 ألف طفل، أخبرني مصادر متعددة أن جيب، بصوته التحريري الأقوى في مجلس إدارة بي بي سي، وضع ضغطاً على بي بي سي نيوز منذ البداية بشأن تغطية إسرائيل. تجلّى هذا الضغط بقوّة في فبراير، عندما بثت بي بي سي ثم سحبت فيلماً بعنوان Gaza: How to Survive a Warzone.

يقرأ  مقتل عشرات المرحّلين الإيرانيين في تحطّم حافلة

الفيلم أُنتج خارجياً ولم يُفصح عن أن والد الراوية البالغة 13 عاماً كان نائبا لوزير الزراعة في حكومة حماس في غزة. في أعقاب ذلك أجلت بي بي سي تحقيقنا حول تدمير النظام الصحي في غزة وقتل أكثر من 1500 من العاملين الطبيين، وقدمت سلسلة أعذار قبل أن تعترف أخيراً بأنها لن تُذيعه بينما تراجع الملف الآخر. لقد كان قراراً استثنائياً وغير مسبوق صمّت وقلّصت تغطيتهم. وبعد أن فضحنا الأمر علناً، بُثّ Gaza: Doctors Under Attack أخيراً، ليس على بي بي سي بل على قناة Channel 4.

قيل لي إن المجلس، تحت تأثير جيب، دفع تيم ديفي وديبورا ترنيس أولاً إلى التستر على موقفهما من فيلمنا، ثم طلبا منا إجراء تغييرات جوهرية، قبل أن يقرّرا في النهاية بث ثلاث مقاطع مدتها دقيقة واحدة من تحقيقنا الذي امتد 65 دقيقة على منصات الأخبار التابعة لهم. كان فيلماً عن مستشفيات تُقصف وتُخلّى عن موظفيها، وعن أطباء ومسعفين وأسرهم يتعرضون للاستهداف والقتل، وعن مئات آخرين يُحتجزون ويُعذّبون. وقد رُخّص الفيلم سابقاً من قِبل بي بي سي ثم عُرض لاحقاً على Channel 4 وعلى منصة مهدي حسن الجديدة، زيتيو، من دون شكاوى. لقد رُشّح لعدد من الجوائز وبدأ يفوز بها.

في نهاية المطاف، يبدو أن ديفي وترنيس لم يسقطا لأنهما واجها جيب، بل لأن ردّهما جاء ببطء شديد تجاه الأزمة التي ساهم عالمه في صُنعها. بعد سنوات من الضغوط حول غزة وتزايد الشكاوى عن الانحياز، أصبح التعديل المضلّل في بانوراما لخطاب ترامب وردّ فعلهم المتردّد على هجومه القانوني والسياسي القشة الأخيرة. لا يعلم إلا جيب إن كان قصده دفع بي بي سي إلى وضعية تقف الآن أمام دعوى محتملة بمليارات الدولارات من رئيسٍ أميركي مُنتخب، لكن نفوذه وتحالفاته كانت مركزية في سلسلة القرارات التي أوصلت المؤسسة إلى هنا. والآن، بعد أن ظل مختبئاً في العلن عقوداً، صار مشروع جيب الطويل لإعادة تشكيل المذيع الوطني حول أجندته السياسية، متوشحاً برداء الدفاع عن الحياد، مرئياً بوضوح على حقيقته: كارثة حقيقيه على بي بي سي وعلى الجمهور الذي يفترض أن تخدمه.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة سياسة التحرير في الجزيرة.

أضف تعليق