الفاشر تحتل مكانة خاصة في وعي كثير من السودانيين؛ ليست مجرد عاصمة ولاية شمال دارفور في غرب السودان، بل تشكّل دعامة عميقة في الهوية الوطنية من ناحية تاريخية وثقافية وروحية.
جذور تاريخية ورمز للمقاومة
منذ عهد السلطان علي دينار (1898–1916) كان الفاشر مركزًا للعلم والتعليم الديني والتراث الروحي، ومن المدن التي اشتهرت بصناعة الكسوة التي كانت تغطي الكعبة في مكة المكرمة. وبعد سقوط السلطنة واندماج دارفور في الدولة السودانية الحديثة، استمر البعد الروحي للمدينة في تشكيل وعي أهل الإقليم، حتى أصبح اسم علي دينار والفاشر رمزين للصمود والمقاومة تجاه محاولات إعادة رسم الخريطة السياسية من قبل الاحتلال البريطاني في نوفمبر 1916.
روح المقاومة
بعد أكثر من قرن على ذلك السقوط التاريخي، شهدت الفاشر سقوطًا جديدًا حين سيطرت عليها قوات الدعم السريع في أكتوبر، بعد حصار امتد أكثر من ثمانية عشر شهرًا، مع نزوح عشرات الآلاف وسقوط مئات الضحايا، حيث رجّحت شبكة أطباء السودان سقوط ما لا يقل عن 1500 قتيل خلال 48 ساعة من سيطرة الفصيل على المدينة، فيما اتهمت تصريحات محلية ومسؤولون حكوميون تدخلات خارجية داعمة لهذه الميليشيا.
نسيج اجتماعي مهدد
عرفت المدينة بتنوّعها القبلي والثقافي، ونُظِر إليها لعقود كنموذج للتعايش في دارفور. غير أن الحرب أحدثت شقوقًا عميقة؛ إذ بدأت الانتماءات القبلية تُستغل أدوات للصراع، ما أدى إلى تآكل العلاقات التقليدية التي كانت ركيزة التعايش في الفاشر. يقول الباحث الاجتماعي حسين آدم، طالب الدكتوراه في جامعة بورصة بتركيا، إن التحولات السكانية الناتجة عن النزوح والهجرة القسرية بدأت تخلخل البنية الاجتماعية، وقد تعيد تشكيل هوية المدينة بطرق يصعب التكهن بها، ويحذّر من أن إهمال البعد الاجتماعي في أي تسوية قد يولّد صراعات أكثر تعقيدًا في المستقبل.
لدى كثيرين مرارة من سقوط المدينة، لكن ظهرت أيضًا بوادر صمود وأمل؛ فقد عبّر إمام نازح، الشيخ عبد الرحيم آدم، عن إيمانه بأن الذاكرة الدينية والتعليمية — مساجدنا وكتاتيبنا — باقية، وأن العودة لحماية التراث ممكنة، فيما قالت معلمة مهجرة، فاطمة عبد الكريم، إن المدينة تعني الهوية والكرامة، وإن المدارس التي تحوّلت ثكنات عسكرية ستُعاد إعمارها قريبًا.
الحاجة إلى التعافي
أدى القتال إلى شلل اقتصادي في الفاشر، وتحولت أسواقها النابضة سابقًا إلى أماكن نصف مهجورة، مع تراجع حركة التجار من بقية أنحاء السودان وارتفاع جنوني في الأسعار ونقص في السلع الأساسية. يرى الباحث في التاريخ السوداني إبراهيم سعيد عبكر أن استعادة السودان لنفسه لا تتم إلا باسترجاع الذاكرة الجمعية والاعتراف بالدور التاريخي لمدن مثل الفاشر، وأن مقاومة علي دينار تمثل نموذجًا حضاريًا للصمود يمكن أن يُلهم جهود الإعمار إذا تحقق السلام في الإقليم.
يطالب المراقبون بوقف القتال وفتح حوار مجتمعي يسبق أي تسوية سياسية، مع التشديد على أن إصلاح النسيج الاجتماعي لا يقل أهمية عن إعادة الإعمار المادي أو الحلول السياسيـة، وأن التعافي يتطلب معالجة الجراح النفسية والاجتماعية التي خلّفها النزاع.