بين أزقة شرق الهند النابضة بالحياة، وبين ضجيج المرور وأضواء المدينة، تنقّلنا في حافلة مُكيفة يقودها مرشد الجولة سوجوي سين، يعدد المشاهد المتتابعة على برنامج الرحلة: مبانٍ استعمارية من نمط نيوقلاسيكي وجوتهـيك، معابد هندوسية وجاينية، كنائس أرثوذكسية يونانية وبرتغالية، كاتدرائية أنجليكانية، ومنازل محاربي الحرية وتجارٍ ازدهروا في عهد الراج البريطاني. لكن هذه الجولة ليست كغيرها: تبدأ بعد غروب الشمس وهدفها الرئيسي ليس التاريخ وحده ولا العمارة فحسب، بل الأضواء التي تسلّط عليها، والتي تمنح الواجهات حياةً جديدة.
مشروع إضاءة كولكاتا هو أحدث إضافة إلى سِجلّ الجولات التراثية في المدينة. مبدعه مواطن يُدعى مُدر باثريا، وجاءت الفكرة عن طريق مقالة صحفية أخبرته بأن مجموعة من هواة المدينة يجريون اضاءة لبعض المباني العتيقة التي أهملتها السنوات. بدأ مُدر يجمع قوائم المباني ويخرج ليرى الوضع بعينه — ثم تحمّس.
«صُدمت»، يقول سوجوي سين. «رأيت باريس ليلًا من قبل، ولم أكن أتوقّع أن تكون كولكاتا—أو كلكتا—قادرة على ذلك أيضاً. أردت أن يرى الناس ذلك أيضًا».
انضمت إلى الجولة هييمانجالي سانكار، التي ولدت وترعرعت في المدينة وتعيش الآن في دلهي. المباني بالنسبة إليها مألوفة، لكنها تقول إن الضياء يحوّلها: «كأنها تستعيد عظمتها وتنبض من جديد».
الجماعة التي تقف وراء المشروع تعرف باسم Kolkata Restorers، لكنها ليست منظمة تقليدية؛ بحسب مُدر باثريا: «ليست هناك لجنة ولا رئيس—مجرد تسمية ومجموعة واتساب». لم يبدأ الأمر بخطة شاملة؛ بل اكتشف مُدر سوقًا قديمًا تتوّجه قبة كبيرة وساعة معطلة بأرقام بنغالية، فجمع أموالًا لطلاء القبة. لكنه سرعان ما أدرك أن العمل النهاري لا يكفي: في المساء لا يُرى القصر، فدفع الناس لتمويل اضاءة القبة.
فاضت عليه أموال متبقية، فأنار معبدًا صغيرًا في أحد أحياء شمال المدينة. واجهته الحجرية المنحوتة بدقة بدت مختلفة تمامًا تحت توهج مصابيح LED الصفراء الناعمة، بعكس ضوء الشمس الحاد. ومن هنا تعلّق مُدر بالفكرة: خلال أسابيع أضاء مبنى المسح الجيولوجي الهندي ذي الطابع النيوقلاسيكي البريطاني، وحاز على إذن لإنارة عنوان مشهور آخر—راج بهوان، مقر الحاكم وسكن نائب الملك في الحقبة البريطانية.
«في نحو 21 شهرًا وصلنا إلى حوالي 92 مبنى»، يقول مُدر. «النموذج بسيط: هذه أملاككم، وهذه أضوائي. أنتم تدفعون كهرباءها فقط وأنا أحسب لكم التكلفة مقدمًا».
إيجاد شدة الضوء المناسبة تطلّب تجارب وتعديلًا مستمرًا بحسب مصمم الإضاءة سوياش نارساريا: «قلّلنا القدرة لتحسين الكفاءة، غيّرنا المواقع، ورتّبنا الإضاءة على طبقات لتسليط الضوء على الأعمدة والدرابزين والجداريات».
ومع توسّع المشروع واجه مُدر عقبة لم يكن يتوقعها: المباني في حالات ترقّق وتلف كثيرة، والإضاءة بدت كاشفة لكل شُحوب وتصدّع. قبل الإضاءة كانت تحتاج إلى ترميم فعلي. خذوا سوق هوغ مثلاً، سوق قوطي قديم عمره نحو 150 عامًا حيث تجد ببغاوات وجبن بندل محلي وكعكات عيد الميلاد من مخبز يهودي. كانت ساعة برج السوق متوقفة، والأسقف متآكلة والبرديات تعفّنت بفعل المطر؛ كان لا بد من إصلاح البرج قبل أن تضيئه. وإصلاح ساعات فوق قرن قديم ليس بالأمر السهل.
لحسن الحظ وجد مُدر الرجل القادر: سوبان دوتا، فني ساعات من الجيل الرابع، يَعُد نسبه إلى أجداد عملوا مع شركة كوك آند كيلفي البريطانية. يُلقّبونه «غاري-بابو» أو رجل الساعة، وهو متحمّس لإصلاح ساعة سوق هوغ، التي يسمّيها نجمة ساعات أبراج المدينة: ساعة تَقرع كل ربع ساعة بلحن مختلف لكل ربع — نغمة لم يسمعها سكان المدينة منذ سنوات. يجلس في ورشته الضيقة ويقول: «توقفت هذه الساعات لسنوات… علينا فحصها وحساب الأوضاع وإعادة تصنيع الأجزاء المفقودة»، وهو واثق أنها ستدقّ من جديد بعد إصلاحه أكثر من نصف دستة ساعات لكنائس وكنس وأسواق لصالح المشروع.
ما يحاوله ناشطو Kolkata Restorers في جوهره ليس مجرد ترميم حجارة وبنايات، بل استعادة شعور بالفخر بالمدينة. كانت كولكاتا، عاصمة الهند البريطانية سابقًا، مدينة ازدهرت ثم تلاشتْ حيويتها بعد الاستقلال؛ مزيجها الانتقائي من العمارة النيوقلاسيكية، القوطية والآرت ديكو يتآكل سريعًا بينما تُهدَر المنازل القديمة لصالح أبراج سكنية ومولات حيث رُقيّ الأرضة يطغى على قيمة التراث، ومالكوها يفتقرون إلى وسع للحفاظ عليها.
«غالبًا ما نسمع أن كولكاتا لا تجاري العصر»، تقول هييمانجالي سانكار. «من الجميل رؤية أشخاص متحمّسين ومولعين بالمدينة ومبانيها». لكن في مدينة تسعى لجذب الأعمال والاستثمارات يُنظر إلى التراث في الغالب كترف مكلف وأولوية ثانوية.
مُدر يُريد أن يُثبت أن الترميم يمكن أن يكون قيادة مواطنية وممولة جماهيريًا. «شقة في أحد المجمعات الفاخرة قد تُكلّف نحو 150 مليون روبية (حوالي 1.7 مليون دولار)،» يقول. «بمبلغ 22 مليون روبية فقط رمّمنا 92 مبنىً، ثماني أو تسع ساعات أبراج، ونحو 1300 لوحة قبور».
وهو لم يتوقف بعد: في جولة «كولكاتا ليلًا» يشير إلى حارة كاملة أضاءها المتطوعون — مبانٍ حمراء ضخمة نيوقلاسيكية مغلقة يوم الأحد لكنها تتوهّج بلون أصفر دافئ. «أريد الوصول إلى 200 مبنى»، يقول مُدر، «حينها ستكون واحدة من أروع المدن ليلًا في البلاد. فالعمارة موجودة بالفعل، وما يحتاجه الأمر هو الضوء».