بعد أشهر من سقوط الأسد عائلات المفقودين لا تزال تطالب بالعدالة

رجل ضخم اللحية يرتدي قميصًا أزرق يتحرك بسرعة بين سيقان الحشائش على طريق عاصف بأرياف دمشق، يلتقط العظام بيديه العاريتين. أضاف فكًا إلى الكومة، ثم التقط جمجمة برفق وقبّلها لوهلة — لحظة حنان لواحد من نُفُوسٍ كثيرة قضت على يد نظام بشار الأسد. بعد عشرة أشهر على الإطاحة ببشار من السلطة في ديسمبر الماضي إثر زحف خاطف للمسلحين، ما تزال المقابر الجماعية تُكتشف.

إرث النظام محبوس في هذه الأرض: عظام حيث كان ينبغي أن تنبت الحقول. حتى الآن تم تحديد أكثر من ستين موقعًا للدفن الجماعي ولا تزال الأرقام في تزايد. من أحدث الاكتشافات كانت في قرية العتيبة بمنطقة الغوطـه الشرقية، حيث عثر راعٍ على ملابس وبقايا بشرية بعدما أُحرِق القش.

تُشير السلطات إلى أن نحو 175 جثة دُفِنت في هذه المقبرة الجماعية في معقلٍ كان خاضعًا للمعارضة سابقًا. هم من بين جحافل المفقودين. وفقًا لشبكة سورية لحقوق الإنسان، فقد اختفى قسريًا أو احتُجز تعسفيًا أكثر من 181,000 شخص خلال 14 عامًا من الحرب الأهلية؛ وتقول المنظمة إن 90% منهم أخدهم نظام الأسد.

عائلات المفقودين تطالب الآن بالإجابات وبالعدالة من سورية الجديدة — التي أجرت، بطريقة ما، أول «انتخبات» برلمانية لها في مطلع هذا الشهر. اختيرت «مجلس شعبي» ليس مباشرة من الشعب، وما زال ثلث المقاعد شاغرًا لتُملأ بتعيينات متوقعة يختارها القائد المؤقت لسوريا، أحمد الشراع. بحسب وجهة النظر السياسية أو الدينية أو الطائفية في هذا البلد المحطّم، رآها البعض مهزلة ورآها آخرون خطوة أولى نحو الديمقراطية.

وفي مواجهة المستقبل، يؤكد الرئيس الشراع — المقاتل الجهادي السابق الذي صار رئيسًا — أن قضية المفقودين ستبقى «أولوية وطنية». عائلات الثكالى مثل قاسم حمامي تراهن على ذلك، لأن ليس بيدهم إلا الانتظار والمطالبة.

يقرأ  ما قاله ترامب وما لم يقله في الكنيست — الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

وجدناه يحفر على قارعة طريق قرب موقع المقبرة الجماعية، يخرج أسرار الأرض قطعة قطعة. أمامنا أخرج سترة قديمة متآكلة ملطخة بالتراب — آخر أثر لسامر، شقيقه الذي اختفى عن عمر يناهز 21 عامًا. قال قاسم بصوتٍ خافت: «سابر كان مدنيًا ومتزوجًا منذ خمسة عشر يومًا فقط. لم يكن له علاقة بالمجموعات المسلحة. لم يقاتل أحدًا». وأضاف: «الغوطة كانت محاصرة؛ النظام لم يسمح بدخول الطعام. خرج بسبب الجوع». ثلاثة من أبناء أخيه خرجوا مع سامر وشاركوه المصير.

كانوا من بين نحو 400 شخص غادروا الغوطـه الشرقية في 27 فبراير 2014 متجهين إلى معقل آخر للمعارضة، فتعرضوا لهجوم من قوات النظام وحلفائها من حزب الله اللبناني المدعوم من إيران. نعلم ذلك لأن القتلة صوّروا المجزرة ونشروها؛ الفيديو المنتشر على الإنترنت مرير المشاهدة.

يُظهر المشهد عمودًا من الناس يسيرون على الطريق إلى كمين محكم. تُفجّر ألغام على امتداد نحو 300 متر، تليها وابل من الرصاص. كانت القافلة في الغالب رجالًا، لكن بها نساء وأطفالًا، وفقًا لمحمد عمر حجار، المدعي العام الجديد لريف دمشق، الذي يؤكد أنهم كانوا مدنيين بينما زعمت السلطة حينها أنهم مقاتلون.

التقينا بأحد الناجين الذي روى كيف حدث الهجوم. بلال الممرض كان يعود إلى موقع المقبرة الجماعية، يطل على المشهد المشمس وكأنه يستدعى الليل الأسود الذي عاشه. قال: «غادرنا حوالي منتصف الليل. كنت أمشي خلف زميلي على بعد ثلاثين مترًا. بعد انفجار الألغام صاح الجرحى. قتلوا المصابين بدم بارد. سمعت صوتين ولم أستطع فعل شيء». نجا بلال بالاختباء في شجيرة حتى الصباح، وهو يتكلم الآن نيابةً عن من لا صوت لهم: «فقدت ابن أخٍ وأصدقاءً وأقارب. يجب محاسبة من دبروا الكمين».

هل ستحصل المحاسبة؟ كثير من كبار عناصر النظام السابق فارّون، وحزب الله تكبد خسائر جمة جراء ضربات إسرائيل وحرب 2024 على لبنان. أصدر قاضٍ سوري مذكرة توقيف غيابية بحق بشار الأسد بشأن جرائم أخرى، لكن الرئيس السابق وجد ملاذًا في روسيا التي دعمت نظامه خلال الحرب. لا يُعرف إن تحدث ملفه أثناء لقاء الشراع ببوتين في موسكو حين صافح الأعداء السابقون وتباحثا تعزيز العلاقات؛ إن كان الأسد يتابع اللقاء فلن تكون مشاهدة مريحة له.

يقرأ  أكثر من 200 موظف سابق في الشاباك يعارضون تعيين زيني

خلف ذلك، تغيّر هام واحد بالنسبة للعائلات التي حطّمها النظام: بات بإمكانهم الآن مشاركة ألمهم دون تعريض حياتهم للخطر. على بعد ساعة تقريبًا من المقبرة الجماعية، انضمّينا إلى تجمع من زوجات وأمهات وبنات المفقودين في «خيمة الحقيقة» — منتدى مجتمعي يكشف رعب الماضي، وفي حالتنا كانت الخيمة قاعة قرية. أكثر من مئة امرأة احتشدن، وملأ الحزن المكان حتى لم تكفّ الكراسي، الكثيرات يرتدين العباءات السوداء والأوشحة.

ناولنا صورًا لأزواج وآباء وأبناء قد يكونون موجودين الآن في الذاكرة فقط؛ وعلّقت صور أخرى صفوفًا على الجدار. توقفت امرأة وتأملت صورة بلمسة حنونة. بيسان، فتاة هادئة تبلغ من العمر 18 عامًا، تذكرت كيف اختطفوا والدها مُسلّحين وهو في الرابعة من عمرها: «أخذوه مكبّلًا إلى السيارة. سألهم لماذا يعتقلونه، فأمسك أحدهم مسدسًا ووضعه على رأسه. خفنا كثيرًا. لم نستطع أن نفعل شيئًا آنذاك. كنت صغيرة وأمي لم تكف عن البكاء». وقف ابن عمّها إلى جانبها؛ فقد أخذوه أيضًا.

ارتفعت الأصوات في القاعة بحكايات مأساوية عن أحبّاء نُخِطوا من أعمالهم أو من منازلهم وابتلعهم سجن الدولة الشهير. صاحَت امرأة من ركن القاعة: «السجون كانت مليئة بدماء وأرواح الأبرياء. أنفقنا كل ما نملك… وأحيانًا بعنا بيوتنا حتى ندفع لبعض كلاب النظام لنعرف شيئًا عن إخوتنا أو أبنائنا أو أزواجنا». امرأة أخرى روت أنها طُلب منها أن تختار بين حرية ابنها أو زوجها: أخذوها مع ابنها إلى فرع أمني وضُربا، وأروها ابنها عبر كاميرا وسألوها إن كانت تريد زوجها أم ابنها، فاختارت ابنها. طلبوا منها التوقيع على ورقة تفيد أن زوجها إرهابي، لكنها رفضت: «لم أرَه يحمل سلاحًا. خرج يتظاهر لأنه كان جائعًا».

رفعت أخرى محجبة هتافها مطالبةً بالإعدام لبشار الأسد: «سنستعيد حقوقنا عندما يُشنق. هو سبب كل شيء. عندما نقطع رأس الأفعى، سنشفى ونصلح بيننا». نَجْوى، إحدى المنظّمات، صعدت المنصة لتحث العائلات على الصبر. زوجها محمد الحلاق اختُطف في يناير 2014، وأعطيت له شهادة وفاة لاحقًا لكنّه لم يجد جسده. قالت نَجوى بغصّة: «ابن الخنزير بشار كسرنا لأربعة عشر عامًا. كل ما أطلبه: لا تيأسوا، لا تتوقفوا عن المطالبة. لن يحدث كل شيء بين ليلة وضحاها».

يقرأ  سفن أستراليا وكندا والفلبين تُجري تدريبات بحرية مشتركة في بحر الصين الجنوبي المشحون بالتوتر

بعضهم يتساءل إن كان سيحدث أي شيء فعلًا، ومنهم محمد الأب الثاكل القليل من الرجال في الاجتماع؛ ابنه مازن الذي كان يعمل في شركة الكهرباء اختطفه الأمن عام 2013. قال باكيًا: «كل هذا الكلام لا ينفع إذا لم تُتخذ إجراءات. نريد أن يُحاكَم الذين أخذوا أبنائنا».

هناك الآن لجنة وطنية للشخصيات المفقودة، لكنها ما تزال في مهِدها وتعاني نقصًا في الموارد — بما في ذلك مختبرات فحص الـDNA. لدى سوريا مختبر واحد فقط للتحليل الجيني. بعد عشرة أشهر على إسقاط الأسد، لا تزال صفوف المفقودين تتزايد. بعض العائلات تخرج الآن لتروي قصصًا عن أحبّاء اختفوا منذ مدة طويلة.

تقول زينة شهلا، المتحدثة باسم اللجنة: «نحاول ضبط التوقعات. نقول للعائلات إننا بدأنا، لكن للأسف سيستغرق الأمر سنوات. في كل قرية سورية قد يكون هناك مفقودون». في أفضل الأحوال تنتظر هذه العائلات سنوات أخرى للحقائق، أو للعدالة، أو لعظام تسترد وتدفن.

أضف تعليق