من الواضح أن روسيا رغبت في تحوّل استراتيجي نحو العمل مع أحمد الشّراع، وربما أرسلت منذ زمن إشاراتٍ استكشافية تدل على استعدادها للتواصل مع هيئة تحرير الشام كطرف محتمل للشراكة، رغم عقدٍ كامل من القتال في سوريا.
زار الرئيس السوري أحمد الشّراع موسكو يوم الأربعاء لإجراء محادثات مهمّة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. بالنسبة لمن تتبّعوا الحرب الأهلية في سوريا وتبعاتها، بدا هذا اللقاء استثنائياً وغير متوقّع لدى كثيرين.
لطالما كانت روسيا حليفةً رئيسيةً لنظام الاسد. وتعتبر موسكو هيئة تحرير الشام منظمةً إرهابيةً، ومع ذلك يبدو أنها ظلت تمارس سياسةً مراوغةً لسنوات، مستعدّةً لإعادة ترتيب أوراقها حسب ما تقتضي المصالح.
دخلت روسيا إلى سوريا عام 2015 دعماً لنظام الأسد ضدّ فصائل المعارضة، التي كانت في مجملها من السنة العرب وتحظى بدعم الغرب وتركيا والأردن ودول أخرى. هدفت موسكو إلى تدعيم النظام وحماية قواعدها العسكرية هناك، فالسورية علاقة قديمة مع روسيا تعود إلى الحقبة السوفييتية، ما يجعلها رصيداً استراتيجياً لموسكو.
ومع مرور الوقت اتجهت موسكو للعمل مع إيران وتركيا لإدارة الصراع: طهران كانت تدعم الأسد—وقد يُنسب إلى قائد فيلق القدس قاسم سليماني، الذي قُتل عام 2020، دورٌ في إقناع روسيا بتصعيد تدخلها. أما تركيا، فبرغم التباينات الظاهرة، فقد نجحت موسكو في التقارب معها، بل وبيعت لتركيا منظومة صواريخ إس‑400، ما مهد لتفاهمات قائمة على إضعاف المعارضة السورية واحتوائها حتى لا تشنّ هجماتً كبيرة.
استخدمت أنقرة الفصائل التي احتوتها في مواجهات ضدّ الأكراد، فشنت هجماتٍ على عفرين عام 2018، وعلى قوات سوريا الديمقراطية في مناطق شرقي البلاد عام 2019. في هذا الإطار اتّفقت روسيا وتركيا وإيران على استبعاد الولايات المتحدة من عملية أستانا، التي انطلقت في كازاخستان عام 2016 كمنصة للحوار الثلاثي حول سوريا.
مع حلول عام 2024 بدا أن النظام تمكّن من تثبيت موقفه، لكن الحرب الإسرائيلية ضد حزب الله من سبتمبر إلى نوفمبر من العام الماضي أضعفت ذلك المدّ الإيراني، إذ اعتُبر حزب الله ركيزةً أساسية لدعم الأسد ميدانياً. ثم شنّت هيئة تحرير الشام، بقيادة الشّراع، هجوماً في أواخر نوفمبر؛ وبحلول الثامن من ديسمبر انهار النظام، وغادر الأسد إلى المنفى في موسكو.
يبدو الآن بوضوح أن موسكو كانت على استعداد لترك الأسد يسقط، وأنها سارعت إلى إعادة تموضعٍ سريع للعمل مع السلطة الجديدة في دمشق. هدفها الحفاظ على قواعدها في شمال غرب سوريا مقابل تزويد النظام الجديد بالطاقة والتوسط له لدى دولٍ مقرّبةٍ من موسكو.
الشّراع بدوره يصرّح بأنه مستعد لتطوير علاقات استراتيجية مع روسيا. وأفادت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) أن اللقاء في موسكو “تناول العلاقات الثنائية وسبل تعزيز التعاون الاستراتيجي في مختلف القطاعات”. واستهل الرئيس الشّراع اللقاء بالتأكيد على عمق الروابط التاريخية بين البلدين، وأن سوريا تدخل مرحلة جديدة تسعى فيها إلى إعادة بناء علاقاتها السياسية والاستراتيجية مع القوى الإقليمية والدولية، لا سيما الاتحاد الروسي.
قال الشّراع: “تربط سوريا وروسيا علاقة تاريخية طويلة، إلى جانب مصالح ثنائية في مجالات عدة، ومنها قطاع الطاقة الذي يعتمد كثيراً على الخبرة الروسية… نحن نحترم كل الاتفاقيات السابقة ونعمل على إعادة تعريف طبيعة هذه العلاقات بما يضمن استقلال سوريا وسيادتها الوطنية.”
بدوره أشاد بوتين بأن العلاقات الروسية‑السورية تمتد لأكثر من ثمانين عاماً، وذكر أن نحو أربعة آلاف طالب سوري يدرسون حالياً في روسيا. كما أثنى على الانتخابات الأخيرة في سوريا واعتبرها إنجازاً وحدوياً للمجتمع في ظل الظروف الحساسة التي تمر بها البلاد، وفق ما نقلت سانا. وأشار كذلك إلى اللجنة الحكومية المشتركة الروسية‑السورية التي انطلقت عام 1993 واستؤنفت أعمالها مؤخراً بقيادة نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك.
رافق الرئيس الشّراع في زيارته موسكو وزير الخارجية وشؤون المغتربين أسعد حسن الشيباني، ووزير الدفاع اللواء محمّح أبو قصرة، ورئيس المخابرات العامة حسين السلامة، والأمين العام لرئاسة الجمهورية ماهر الشّراع. تشكل هذه الزيارة الأولى للشّراع إلى روسيا، وقد سبقها زيارة للوزير الشيباني إلى موسكو في يوليو الماضي، وكذلك لقاءات رفيعة المستوى بين وفود روسية وسورية خلال الأشهر الماضية لبحث سبل تعزيز التعاون عبر مجالات عدة تخدم مصالح البلدين.
تحوّل الشّراع وبوتين من خصومةٍ ظاهرية إلى شراكةٍ عملية ليس بالأمر العقلي البعيد؛ فلتاريخ يعلمنا أن الحلفاء قد يتحولون إلى أعداء، والأعداء إلى حلفاء. أمثلة التاريخ كثيرة: زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين، أو تقلب التحالفات الأوروبية عبر القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. الزمن يتغير، وما تفهمه موسكو جيداً أن المتغيرات قد تتسارع جداً، فتتطلب مرونةً استراتيجيةً أعلى.