بكتيريا خفية تحت جليد القطب الشمالي قد تنعش الحياة البحرية

المحيط القطبي الشمالي يتحوّل بسرعة مذهلة

كان المحيط القطبي يوماً ما محتبساً خلف قشرة سميكة من الجليد القديم، لكنه الآن يشهد تغيّرات متسارعة. ترتفع درجات الحرارة هناك بمعدلات تصل إلى أربعة أمثال معدل الاحترار العالمي، فتذيب الجليد البحري الذي كان يشكّل درعاً يحمي سطح المحيط. ومع اختفاء هذا الحاجز، تخترق أشعة الشمس المياه بعمق أكبر، معيدة تشكيل شبكة الغذاء البحرية بأكملها من البكتيريا وصولاً إلى الحيوانات البحرية الكبيرة.

مصدر جديد للحياة في المحيط القطبي

ما فاجأ الباحثين في هذا العالم المذوب هو أن عنصر النيتروجين، أحد أهم العناصر المغذية للحياة، يمكن تجديده بطرق لم تكن في الحسبان. لعقود اعتقد العلماء أن مياه القطب المتجمدة تكاد لا تشهد عملية تثبيث النيتروجين—وهي العملية التي تحول فيها ميكروبات معيّنة غاز النيتروجين إلى أشكال قابلة للاستخدام من بقية الكائنات. لكن دراسة دولية قادها باحثون من جامعة كوبنهاغن قلبت هذه الفرضية رأساً على عقب.

التثبيث الميكروبي: الكيمياء السحرية للطبيعة

تثبيث النيتروجين هو بمثابة خيمياء ميكروبية؛ فبعض الكائنات الدقيقة، التي يطلق عليها ديازوتروفات، تستخرج جزيئات النيتروجين (N₂) من الهواء—مادة عادة ما تكون بعيدة المنال لمعظم أشكال الحياة—وتحوّلها إلى أمونيوم، المادة المغذية التي تغذي نمو الطحالب وبقية شبكات الغذاء البحرية.

أظهرت قياسات أجريت على متن سفينة الأبحاث RV Polarstern وجود تثبيث للنيتروجين في المحيط القطبي. في المحيط القطبي المركزي، حيث لا يزال الجليد كثيفاً، تراوحت معدلات التثبيث بين نحو 0.4 و2.5 نانومول لكل لتر يومياً، بينما في منطقة الحافة الجليدية (حيث يذوب الجليد) سجّلت بعض المناطق معدلات تصل إلى 5.3 نانومول لكل لتر يومياً. حتى تحت رواسب جليدية ثابتة قرب غرينلاند وُجدت مستويات ضئيلة لكنها قابلة للكشف—دلالة على أن العملية منتشرة عبر أنواع نظم الجليد البحري المختلفة.

يقرأ  المسؤولون يعلنون احتواء حريق في مصفاة شيفرون بولاية كاليفورنيا

لا سيانوبكتيريا، بل جماعات قطبية خاصة

في المحيطات الدافئة تقوم السيانوبكتيريا عادة بمهمة التثبيث، أما في قلب القطب فالأمر مختلف: وجد الباحثون مجموعة مغايرة من الفاعلين—ديازوتروفات غير سيانوبكتيرية (NCDs). هذه الكائنات تنتمي غالباً إلى تكتلات معروفة باسم Gamma-Arctic1 وGamma-Arctic2، وهي تهيمن في ظروف الجليد متعدد السنوات وتبدو نشطة بشكل خاص حيث يذوب الجليد أو يتفكك.

أوضح قائد الفريق، ليزا فون فريسن، أن الفريق ارتكب خطأً عندما افترض أن ظروف الجليد القاسية تمنع حدوث التثبيث. وقالت إن الاكتشاف لا يقتصر على حافة الجليد حيث يزداد الذوبان شدةً، بل يحدث أيضاً تحت طبقات سميكة من الجليد في المحيط القطبي المركزي، ما يعني أن النيتروجين—الذي كان يُعتقد أنه نادر في المنطقة—يُعاد تدويره وتجديده بهدوء حتى تحت الجليد.

كيف قاسوا ما لا يُرى؟

فحص الباحثون معدلات تثبيث النيتروجين في مواقع قطبية عدة: المحيط القطبي المركزي، منطقة الحافة الجليدية، والسواحل تحت الجليد المثبت على اليابسة. إلى جانب قياس كمية النيتروجين المثبّتة يومياً، رصدوا متغيّرات بيئية أخرى—كالحرارة والملوحة وتركيز الفسفور والنترات—محاولين فهم المحفزات التي تُشغل العملية.

عند إضافة كربون عضوي ذائب (DOC) إلى عينات معيّنة ارتفعت معدلات التثبيث، ما يوحي بأن هذه الميكروبات القطبية تزدهر في بيئات غنية بالمادة العضوية—التي تطلقها الطحالب عادة. ومن هذا المنطلق، تبدو هذه الديازوتروفات غير السيانوبكتيرية وكأنها تتغذى على المادة العضوية التي تفرزها الطحالب وتردّ الجميل بتوفير نيتروجين مثبّت يغذي نمو تلك الطحالب.

مهندسو الشبكة الغذائية المجهرية

تحليلٌ كمي كشف أن هذه الميكروبات أكثر وفرة ونشاطاً مما توقع العلماء. عُثر على أكثر من 870 نمطاً جينياً مرتبطاً بتثبيث النيتروجين، غالبيتها تنتمي إلى هذه العِصَب القطبية الخاصة، ما يشير بقوة إلى أن دورة النيتروجين في القطب يهيمن عليها إلى حد بعيد مكروبات غير سيانوبكتيرية.

يقرأ  شهادات شهود تكشف حياةً تحت وطأة تفشّي الجريمة في المجتمع العربي

وجودها قد يفسّر كيف تستمر حياة البحر في البقاع الفقيرة بالمغذيات. فالطحالب، التي تشكل قاعدة السلاسل الغذائية القطبية، تعتمد اعتماداً كبيراً على النيتروجين. وعندما ينخفض توفره تنكمش نموّات الطحالب، ما يؤثر على العوالق والأسماك والثدييات البحرية. فإذا كان تثبيث النيتروجين أكثر شيوعاً مما اعتقدنا، فقد يساهم ذلك في تغذية هذه النظم الإيكولوجية أثناء فترات ذوبان الجليد.

حافة الجليد: حدود خصبة

سجلت أعلى معدلات التثبيث عند هامش الجليد، حيث يتلاقى ماء الذوبان والضوء والمغذيات لتهيئة ظروف نمو ممتازة. ومع تراجع مساحة الجليد وتوسع مناطق الذوبان، يتوقع العلماء أن تتحول هذه الحواف إلى بؤر ميكروبية نشطة.

تؤكد ليزا فون فريسن أن زيادة الطحالب—التي تعتبر الغذاء الرئيس للحيوانات الصغيرة مثل القشريات العالقة—يمكن أن يكون لذلك أثر غير مباشر يعمّ كامل السلسلة الغذائية. وزميلها البروفسور لاسه رييمان أوضح أن هذه العمليات تحت المجهر قد تؤثر حتى في معدلات امتصاص المحيط القطبي لثاني أكسيد الكربون: “إذا زادت إنتاجية الطحالب، سيحتجز المحيط القطبي CO₂ أكثر لأن مزيداً منه سيُحبَس في كتلة حيوية طحلبية”. لكنّه حذّر من تعقيد الأنظمة البيولوجية وصعوبة استخلاص توقعات قطعية.

فصل جديد في علم القطب

أهمية هذا الاكتشاف كبيرة. يلعب النيتروجين دوراً أساسياً في إنتاجية النظم البحرية، والاكتشاف بأن ميكروبات القطب تثبت النيتروجين بوجود الجليد يبدّد الافتراض الطويل بأن إضافات النيتروجين في المنطقة طفيفة.

مع تراجع الجليد، ستتسع مناطق المياه المفتوحة التي قد يحدث فيها تثبيث النيتروجين بوتيرة متسارعة. مزيدٌ من النيتروجين يعني طحالب أكثر وطعاماً أكثر للأسماك والحيوانات البحرية الأخرى؛ لكنه يعني أيضاً دوائر كربون أوسع وتقلبات محتملة في كيمياء المحيط.

المغزى التطبيقي للبحث

يحمل هذا الاكتشاف تداعيات مهمة لتصور العلماء لدور المغذيات في أحد أسرع النظم البيئية تغيّراً على وجه الأرض. فهو يوحي بأن الحياة في القطب قد تكون أكثر مرونة مما توقّعنا، إذ تتكيّف العمليات الميكروبية مع ظروف تراجع الجليد.

يقرأ  خمس طرق منخفضة المخاطر لدمج أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي مع الطلاب

عملياً، قد يعيد هذا الاكتشاف تشكيل نماذج المناخ لتقدير إنتاجية المحيط واحتجاز الكربون في المحيطات القطبية. فإذا ازداد تثبيث النيتروجين مع انحسار الغطاء الجليدي، قد يستطيع المحيط القطبي امتصاص المزيد من CO₂، مع ما قد يوازي ذلك من تأثيرات إقليمية تخفف بعضاً من آثار الاحترار. كما يبرز البحث ضرورة إدراج النشاط الميكروبي في توقعات المناخ المستقبلية لكي تحسب النماذج كمية الكربون التي قد يُحتجزها القطب وكيف يمكن لتغير توفر المغذيات أن ينعكس عبر السلسلة الغذائية العالمية.

النتائج البحثية متاحة على الإنترنت في مجلة Communications Earth & Environment.

أضف تعليق