تجميل صورة مجرم حرب: ديك تشيني في زاوية الآراء

رحل عن عالمنا عضو آخر من فريق «الحرب على الارهاب» القديم. ديك تشيني، الذي شغل منصب نائب الرئيس الأقوى في تاريخ الولايات المتحدة خلال عهد جورج دبليو بوش (2001–2009)، توفي يوم الاثنين عن عمر يناهز أربعةً وثمانين عاماً.

ووفق بيان تأبيني أصدرته أسرته، وُصِف تشيني بأنه «رجل عظيم وخيّر علّم أبنائه وأحفاده أن يحبوا وطننا، وأن يعيشوا حياةً من الشجاعة والشرف والمحبة واللطف وصيد الذباب».

لكن كثيرين على وجه الأرض سيتذكرونه لأمور أقل دفئاً من الحب وصيد السمك. بصفتِهِ المهندس الرئيسي لما سمّي «الحرب العالمية على الارهاب» التي انطلقت عام 2001، مات والدماء تلطخ يديه بكميات لا تحصى، لا سيما في العراق؛ حربٌ أُطلقت بذريعة محاربة «الإرهابيين» لكنها سمحت للولايات المتحدة بترهيب أماكن شتّى حول العالم.

في الأعوام التي سبقت غزو العراق 2003، أقسم تشيني أن «النظام العراقي» كان منشغلاً بتعزيز قدراته في مجال العوامل الكيميائية والبيولوجية وأنه واصل «السعي نحو برنامج نووي بدأ منذ سنوات». وبحسب روايته، كان هذا السعي «لغرض إحداث الموت على نطاق واسع».

في وصف لاذع لأسلوبه، لاحظت مجلة Foreign Policy في تجميعها لقائمة «أكثر مئة مفكر عالمي تميزاً» عام 2012: لو كان تخويف الناس ديناً لكان تشيني رئيس كهانته. والواقع أن تضخيمه للخوف وكذبه المتكرر بشأن أسلحة الدمار الشامل في العراق مهّدا الطريق لوقوع «موت على نطاق واسع» في البلد، ومهّد كذلك لثراء جيوبٍ محددة، من بينها شركات مرتبطة بالنفط والهندسة مثل هاليبورتن، التي شغل تشيني منصب مديرها التنفيذي من 1995 حتى 2000 وفازت لاحقاً بعقود بلا مناقصة بقيمة سبعة مليارات دولار في أعقاب الغزو.

كانت الأمور إذن تجري كالمعتاد في بلد تضارب المصالح والأبواب الدوارة.

يقرأ  رجل إريتري يكسب قرارًا بمنع ترحيله إلى فرنسا ضمن صفقة «واحد يدخل، واحد يخرج»

وحتى يوم موته ظل تشيني متمسكاً بموقف «لا ندم عليه» تجاه ارتكاب المجازر الجماعية والمعاناة المصاحبة لها؛ فقد أبلغ شبكة CNN قبل اثنتي عشرة سنة من الآن بعد تدمير العراق الفعلي: «كان ذلك الشيء الصحيح للقيام به آنذاك. كنت أؤمن بذلك آنذاك، وأؤمن به الآن.» بغض النظر عن مئات الآلاف من القتلى العراقيين، ونزوح الملايين قسراً، وتلويث البلاد بذخائر سامة ومشعة ستظل تؤثر على صحة العراقيين لأمد طويل.

وقد نُسب ارتفاع معدلات السرطان بين السكان جزئياً إلى استخدام الجيش الأمريكي لأسلحة اليورانيوم المنضب، وهي بقايا «تمثّل خطراً بيئياً طويل الأمد هائلاً إذ ستظل مشعة لأكثر من 4.5 مليار سنة»، كما رصدت الجزيرة.

وطبعاً، يقال إن صيد الذباب في بغداد رائع.

وليس غزو العراق ندمه الوحيد. إزاء تقرير وكالة الاستخبارات المركزية لعام 2014 حول استخدام الولايات المتحدة «تقنيات استجواب معززة» مثل إعادة الترطيب الشرجي و«الإسالة» (التعذيب بالماء)، تمسّك تشيني بموقفه قائلاً: «سأفعلها ثانية في دقيقة.» كما لم تكن «الحرب على الارهاب» الحدث السادي الوحيد في مسيرة رجل ظل حاضراً في المشهد السياسي الأميركي لعقود. ففي ديسمبر 1989 أطلق الجيش الأميركي جحيمه على حي إل تشورّيلو الفقير في مدينة بنما، فقتل ربما آلاف المدنيين، وأُطلق على الحي لاحقاً لقب «هيروشيما الصغيرة».

وكان تشيني حينها وزير دفاع الولايات المتحدة في إدارة جورج إتش. دبليو. بوش، وقد تفاخر بأن «العملية كانت أكثر عملية جراحية عسكرية بحجمها تم تنفيذها على الإطلاق». تلك الضربة «الجراحية» في بنما كانت بمثابة تجربة تمهيدية لعملية عاصفة الصحراء ضد العراق عام 1991، التي أدارتها إدارة تشيني بطريقتها الخاصة استعداداً لجرائم لاحقة.

والآن رحل تشيني، فانضم إلى رفقائه السابقين في جرائم الحرب مثل دونالد رامسفيلد وكولن باول في ذلك العالم الآخر. وفي أعقاب وفاته اقتصرت وكالات الأنباء الأميركية ووسائط الإعلام على تكريمه بوصفه شخصية «مستقطبة» و«مثيرة للجدل»، كما وصفت وكالة الأسوشيتد برس بأنه «لم يُخطئ في نقطة تلو الأخرى في حرب العراق دون أن يفقد اعتقاده بأنه كان على حق في الجوهر».

يقرأ  بنيدورم تشدد الرقابة على عرض «السلع المسيئة» في واجهات المحلات

كالعادة، يتعذر على الإعلام المؤسسي أن يسمي الأمور بمسمياتها — أو أن يسمّي مجرمي الحرب مجرمي حرب. ولكن في ظل خلفية إبادةٍ متواصلة في قطاع غزة مدعومة أميركياً وكوارث عالمية أخرى، لا يمكن اعتبار رحيل قاتل جماعي آخر خبراً سيئاً بالضرورة.

آراء كاتب هذا المقال تعبر عنه وحده ولا تعكس بالضرورة سياسة قناة الجزيرة التحريرية.

أضف تعليق