حاولنا الوصول إلى سكان غزة الذين قابلناهم خلال عامَي الحرب — هذا ما حدث لهم

أجرينا مقابلات مع أكثر من سبعمئة شخص في قطاع غزه خلال العامين الماضيين؛ قصصهم لم تبرح أذهاننا. تساءلنا دائماً: هل عثروا على أقارب مفقودين؟ هل ما زالت منازلهم قائمة؟ هل دفنوا موتاهم؟ هل أُجبروا على الفرار مجدداً؟ وهل هم على قيد الحياة أصلاً؟

حاولنا التواصل معهم مرة أخرى. ما قصّوه لنا يكشف شيئاً فشيئياً حجم المعاناة: لا تجربة واحدة تَسعُ كلّ ما حلّ بهذا المكان وبأهله، لكن جمْعَ الشهادات يرسم صورة حرب مديدة دمرت مجتمعاً بأسره.

حدّثونا عن الجراح الخام للحزن، وعن الخوف من الضربة الجوية التالية، وعن رهبة الغد. عن المرة الأولى التي فرّوا فيها حين اقتربت القذائف، وعن خيامٍ مؤقتة أقيمت للمرة الأولى، ثم للمرة الثانية والثالثة. عن الأجساد التي تضعف، وأطفال ينوحون من الجوع، وأيام يقضونها في البحث عن حليب أطفال أو عدس. عن آمالٍ بتلقي علاج طبي خارج القطاع، بالعودة إلى المدرسة، وبالاجتماع بالعائلة.

هذا المقال من إعداد: فيفيان يي، لورين ليذرباي، سمر أبو اللّوف، بلال شبير، إياد أبوهويلة، أبو بكر بشير وآرون بوكسيرمان.

حاولنا إعادة الاتصال بالعديد منهم فكان كثيرون لا يجيبون؛ أرقام هواتف توقفت عن العمل، وآخرون غادروا غزه، وتبيّن لنا أن بعضهم قُتل. من بين نحو مئة شخص تواصلنا معهم، لم ينجُ أحد دون خسارة: فقدوا قريباً أو صديقاً أو بيتاً أو الأمل.

“فقدت أختاً وأخاً ونحو أربعين قريباً. هذا الحزن وحده يكفي عمرًا كاملاً” — إسماعيل الشيخ.

“حياتنا صارت معاناة فوق معاناة. تاهت أقاربنا وتشتتنا الخيام” — هنا النجار.

تذكرت سمر الجاجة وأبناء أخيها الأربعة: حين التقيناهم الصيف الماضي كانوا ينتظرون سماح العودة إلى مدينة غزة، وبعد عودتهم هذا العام وجدوا أن غرفة نوم والديهم وحدها كانت قائمة. لم يكن بداخلها أحد. وقف الخمسة مبهوتين. الأطفال قالوا: “يا ليتنا دُفنّا معهم.” لم يحظوا بطقوس العزاء المعتادة لأن مكونات الحلويات باهظة الثمن، ولم يتمكنوا من الصلاة على القبور لأنهم لا يعلمون أين هي.

يقرأ  محكمة تدين زعيم ميليشيا سودانية بارتكاب جرائم حرب خلال نزاع دارفور

تحدثت معنا من بناية نصف مهدمة في غزة، ثم اجتاحت القوات الإسرائيلية المدينة في عملية جديدة ضمن حملة استمرت عامين منذ هجوم 7 أكتوبر 2023. وفي القاهرة يجري مفاوضون من الجانبين محادثات حول تبادل محتمل للأسرى، وهو احتمال قد يقرب نهايةً للحرب إن اتُّفِق عليه. لكن بينما ينتظر الناس مصيرهم، يبقى همّهم الأول هو البقاء على قيد الحياة.

انتقلوا هرباً من الهجوم، ودفعوا نحو أربعة آلاف دولار لسائق شاحنة ليحمّل نصف متعلقاتهم — “إما تدفع أو تموت” كما قال السائق. بعد رحلة استغرقت 14 ساعة عادوا إلى مخيم الإغاثة نفسه الذي عاشوا فيه سنةً ماضية، وهذه المرة من دون خيمة. كثرٌ ممّن تحدثنا معهم نُزِعوا مراتٍ عدة من مساكنهم؛ كثيرون ليس لديهم مكان يعودون إليه.

“لو صار إخلاء لعائلتي، فستكون المرة العاشرة منذ بداية الحرب” — نور بردة.

“ترُكنا خيارين: الموت في غزة أو التشرد جنوباً. هذا يولّد غضباً وحسرة لا يطاق” — منتصر بهجة.

الجوع كان حضوره الثابت. تحدث كثيرون عن فقدان الوزن الشديد، عن أيام بلا طعام، وعن المخاطر التي تعترض البحث عن لقمةٍ أو عن مساعدات. تحدث حمّام ملاكة عن لمّ شمله مع زوجته وأبنائه خلال هدنة، لكنه لم يجد ابنته الصغيرة سيلا حيّة؛ قُتلت أثناء افتراقهم. وبعد كسر الهدنة في مارس، باتت أيامهم موجات جوع وخطر لا تنتهي، وهو يغامر اليوم بالاقتراب من قوافل المساعدات أو الطوابير للحصول على ما يسد رمق أولاده. يقول المسؤولون إن مئات الفلسطينيين قُتلوا أثناء البحث عن الطعام.

“خسرت 20 كيلوغراماً أثناء المجاعة، وفي أوقات كنت أنهار ولا أقدر حمل جرحى والوصول للإسعاف” — نسيم حسن.

“كأم، كل همّي أن أحتفظ بوجبة لغدٍ، وأن أحضر ماء بلا قتال في الصفوف الطويلة” — ياسمين العطار.

يقرأ  مع وقوع زلزال، تتسابق فرق الإنقاذ لإنقاذ ناجين من انهيار مدرسة في إندونيسيا

بعض الذين عرفناهم كانوا قد استعادوا شيئاً من الحياة العادية قبل الحرب: علاء أبو قَرْش كان يدير مطعماً للشيش طاووق في دير البلح، ثم عاد مع العائلة إلى غزة في أثناء الهدنة، لكنه تكبد خسائر: فقد قريبات وأقارِب، وتعرض لإصابتين من شظايا وفي مناسبة أخرى حين قُصِف ناطحة سحاب مرّر بجانبها. الآن لم يعد يبيع الشاورما؛ يبحث عن طعام وماء ومال لشراء الخبز والجبن والزعتر لأولاده.

“أصعب ما في الأمر أن تعيش على انتظار الموت”، قال، وهو يتساءل إن كان سيرى أطفاله أحياء في الأشهر المقبلة، وإن كان يملك القوة لحمايتهم.

“حتى الحيوانات، لو تعرّضت لما عاشوه، لما اعتادت عليه. نحن نمر بكارثة” — فاطمة اداعة.

الخوف والصدمة يطاردان الأطفال؛ باتت ليالٍ يصرخ فيها الصغار من أصوات الطائرات أو الانفجارات، وحالات رعب متكررة يعيشها الأطفال كل ليلة.

لم يكفْ كثيرون عن التفكير بالموت. تحدث محامٍ من بيت لاهيا عن معاناة إطعام توأمه البالغ عامين، ثم اختفى فيما يُرجّح أنه ذهب للبحث عن طعام ولم يعد. شبهت عائلته صوراً رُفعت على شبكات التواصل وكلباً يَنقب في الجثث، فظنّوا أنه من بينهم.

“أتمنى قذيفة في أي لحظة؛ تضربنا جميعاً معاً فتكون تلك أفضل من هذه الحياة” — أحمد النمس.

بعض الذين نجحوا في الخروج دفعوا أو استعملوا جوازات سفر أجنبية أو أُخلِيت حالتهم للعلاج الطبي. لكن الرحيل لم يمنحهم طمأنينة تامة: صنعوا حياةً جديدة في بلاد مثل ايطاليا أو الأردن أو مصر، لكنهم يقبعون تحت وطأة الذنب والقلق على من تركوا هناك.

نِفين فؤاد أُذِن لها بالإخلاء إلى ايطاليا لرعاية ابنة صغيرة جُرحت بشدّة، وقد وصل بعض أفراد أسرتها لاحقاً. تتعلّم الايطالية وتتدرّب لتصبح مساعدة طاهٍ، لكن صورة الأب في غزة وهو يفوّض شراء السمك تحرك دموعها حين تدفع ثمن وجبة. تقول إنها تشعر بالخيانة أحياناً لتركها بلدها، وفي المقابل تؤمن أنها ومنأطفالها استحقّوا فرصة للعيش.

يقرأ  بحسب مسؤولين: رضيع من بين قتيلين في هجوم بطائرة روسية مسيّرة على كييف

“أحاول الابتعاد عن الناس لأنني أفكر باستمرار بأمي وأختي وإخوتي الذين ما زالوا في غزة” — رُبى أبو جيبة.

بعض من بقوا هنا تحوّلت حياتهم إلى مزيجٍ من فقدان التعليم والعمل والأمل. ماهر غانم شهد وفاة زوجته التي مُنعت من مغادرة القطاع لتلقي العلاج، ثم تزوّج تقليدياً لكي لا يبقى وحده مع سبعة أولاد. أبناؤه تكاد مدارسهم غائبة منذ عامين؛ أصغرهم كان في الصف الأول حين بدأت الحرب ويتحدث الآن عن جرّ عربات مقابل لقمة.

“لا مدرسة له ليحضُرها أصلاً” — قال والده.

بعضٌ آخر يقول إنه يريد الرحيل بأي ثمن؛ بعضهم يتعلّق بأحلام بسيطة: إكمال دروس الثانوية، أن يصبح مهندساً معمارياً، لاعب كرة. آخرون يتساءلون إن كانت الحياة ستبقى لهم أصلاً في غزة.

“المستقبل ذهب، الدكان ذهب، مستقبل أولادي ذهب، شعور السعادة ذهب” — محمد السبتي.

“أحلم بنهاية هذه الحرب لأقعد وأدرس لامتحانات الثانوية التي أُعدّ لها منذ عامين” — شهد جويلف.

“لا أريد أن أموت، أريد أن أكبر، أصبح مهندساً أعيد بناء غزة وألعب مع المنتخب” — محمد أبو رتيانة.

الغالبية التي تحدثنا معهم تريد الخروج لأنهم لا يرون مستقبلاً واقعياً لبقائهم هنا؛ آخرون، وإن بقوا، يعيشون كل يوم وعلى قفاهم القلق والخوف والحرمان. النهاية ليست واضحة: أملٌ بأن تفتح المحادثات طريقاً لوقف النار واستخلاص جراح البشر وإعادة من تبقى، وخوفٌ من أن تستمر المعاناة بلا نهاية.

أضف تعليق