تصاعد لهجَة بنيامين نتنياهو تجاه استراليا في الأسابيع الأخيرة، إلى حدّ اتّسم بالمرارة الشديدة.
في 24 أغسطس خرجت عشرات الآلاف من المتظاهرين في عواصم البلاد مطالبين بالوقوف إلى جانب الفلسطينيين، مدينين سياسات الحكومة الإسرائيلية في غزة، ومطالبين حكومتهم باتخاذ موقف أشدّ إزاء الدمار المتواصل هناك. وما زال كثيرون يكررون مطالبهم التي سبقتها تظاهرة عملاقة بتاريخ 3 أغسطس حين قطعت مسيرة ضخمة جسر ميناء سيدني—إحدى أكبر التظاهرات السياسية في تاريخ البلاد.
دبلوماسياً، تغيّرت الكثير من الأمور خلال تلك الفترة؛ شهدت العلاقات بين استراليا وإسرائيل تدهوراً غير مسبوق شمل إلغاء تأشيرات لمسؤولين، وتبادل تصريحات لاذعة واتهامات ــ ونفيـات ــ بشأن “تدخّل” إسرائيلي في الشؤون السياسية الأسترالية عقب طرد سفير إيران. وعلى الرغم من الاختلافات في التقييم حول مدى التحوّل، فقد اعتبر بعض الخبراء أن التغيّر كان واضحاً.
الكثير من المتظاهرين في 24 أغسطس طالبوا بعقوبات على إسرائيل وانهاء ما وصفوه بـ”تجارة أسلحة ثنائية الاتجاه” التي تزود بمقتضاها استراليا أجزاء تُستخدم في تسليح قوات الدفاع الإسرائيلية.
كيف وصلنا إلى هنا
أعلنت هذه الأسبوع الرابطة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية أن أفعال إسرائيل في غزة تندرج تحت تعريف الإبادة الجماعية كما ورد في اتفاقية الأمم المتحدة. وأشار تقرير الرابطة إلى الهجمات الواسعة التي طالت الأشخاص والبنى التحتية الحيوية للبقاء—خدمات صحية وإغاثية وتعليمية—، فضلاً عن تقديرات بإصابة أو مقتل نحو خمسين ألف طفل نتيجة العمليات الإسرائيلية.
رفضت إسرائيل التقرير ووصفت نتائجه بأنها مبنية على “أكاذيب حماس”، ونفت مراراً ارتكاب إبادة جماعية في غزة. وفي الوقت نفسه وسّعت قوات الدفاع الإسرائيلية عملياتها، معلنة عن هجوم واسع على مدينة غزة رغم الاحتجاجات الدولية والمحلية، فيما أكد رصد عالمي معتمد من الأمم المتحدة وجود مجاعة في القطاع.
أشار المرصد إلى أن أكثر من نصف مليون شخص يواجهون أوضاعاً كارثية تتسم “بالمجاعة والتشرد والموت”، وأن الأزمة “من صنع الإنسان”، فيما تتهم المنظمات الاغاثية إسرائيل بـ”العراقيل المنهجية” أمام دخول الغذاء إلى قطاع غزة.
دفعت هذه التطورات، إلى جانب الاحتقان الشعبي المتزايد، الحكومة الأسترالية إلى تعديل لهجتها. بعد أيام من مسيرة جسر ميناء سيدني، أعلن رئيس الوزراء أنتوني ألبانيز، تماشياً مع كل من بريطانيا وفرنسا وكندا، اعترافاً مشروطاً بدولة فلسطينية. وقال ألبانيز لاحقاً لهيئة الإذاعة الأسترالية إن محادثة هاتفية مع نتنياهو أوضحته بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية في حالة “إنكار” بشأن ما يجري في غزة—وهو ما شكّل جزءاً من دوافع القرار.
جاء القرار في استراليا مستهجَناً من مجموعات مؤيدة للفلسطينيين ومؤيدة لإسرائيل على حدّ سواء. وصفت أمل ناصر، لاجئة فلسطينية من الجيل الثالث ومن منظمي المسيرات، الخطوة بأنها “مشتتة” وأن الحكومة مطالبة بالمزيد لتفي بالتزاماتها بموجب القانون الدولي. وأضافت أن الاستجابة الحكومية ليست بالمقدار الكافي أو المتناسب مع حجم الكارثة.
ومن جهة أخرى عبّر أليكس ريفتشين، المدير المشارك للمجلس التنفيذي لليهود الأستراليين، عن خيبة أملٍ شديدة لاعتقادهم أن الخطوة جاءت بمثابة “سياسة رمزية” تقوّض فرص السلام على الأرض، مضيفاً أن الإحباط واسع النطاق داخل الجاليات اليهودية عبر البلاد وأنّ الوضع يمثل نقطة منخفضة غير مسبوقة تقارب ثمانين عاماً من العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
أقسى الردود جاءت من نتنياهو نفسه؛ ففي 18 أغسطس بعث برسالة لألبانيز اتهمه فيها بإضافة “وقود إلى نار معاداة السامية” ووصف قرار الاعتراف بأنه “استرضاء” لحماس، مجدداً هجومه نفسه على بريطانيا وفرنسا وكندا واتهمها بالتحالف مع “قتلة جماعيين ومغتصبين وقاتلي أطفال وخاطفين” في خطواتها نحو الاعتراف الفلسطيني.
لكن في حالة استراليا أخذت الأُمور منحى أعنف: أعلن وزير الشؤون الداخلية الأسترالي توني بيرك في اليوم نفسه أن السياسي الإسرائيلي المتطرف سيمشا روثمان قد مُنِع من دخول البلاد قبل جولة تضامنية مخططة، وردّت إسرائيل بإلغاء تأشيرات ممثلين أستراليين لدى السلطة الفلسطينية. وفي 19 أغسطس تكثّف لهجته ضد ألبانيز ووصفه بأنه “سياسي ضعيف خان إسرائيل وتخلّى عن يهود استراليا”. بعد يومين، وفي مقابلة مع قناة سكاي نيوز الأسترالية، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي وضع سجل أنتوني ألبانيز بأنه «سَيُلطَّخ إلى الأبد» نتيجة قرار الاعتراف بدولة فلسطينية.
رد ألبانيز على انتقادات نتنياهو باستخفاف، قائلاً للصحفيين إنه «لا يأخذ هذه الأمور على المستوى الشخصي». وأضاف: «أتعامل مع قادة الدول باحترام وأخضع إلى القنوات الدبلوماسية في التفاعل معهم».
لكن وزير الشؤون الداخلية، بَرك، رد بلغة أشد، واصفاً تصرفات نتنياهو بأنها «انفعال وتعنيف». وقال في مقابلة مع هيئة الإذاعة الأسترالية إن «القوة لا تُقاس بعدد الذين تستطيع تفجيرهم أو بمدى الجوع الذي تسبّبه للناس».
لماذا الآن؟
هذا الخلاف العلني أغرق العلاقات بين أستراليا وإسرائيل في أدنى مستوياتها. إيان بارميتر، الباحث في مركز الدراسات العربية والإسلامية بجامعة استراليا الوطنية، والذي قضى عقوداً في العمل عبر أجهزة الحكومة الأسترالية، يقول إنه لم يشهد العلاقة بين البلدين في حال أسوأ مما هي عليه الآن. كما يلفت إلى أن «أستراليا كانت، تاريخياً، ذات سياسة خارجية مؤيدة لإسرائيل إلى حد كبير».
يضيف بارميتر أن التحوّل الأخير في سياسة الحكومة الأسترالية يُرجع بصورة أساسية إلى عاملين: إنكار نتنياهو لوجود أزمة إنسانية في غزة، وتصعيده لخطة السيطرة على كامل القطاع. ويضيف عاملٌ آخر، وهو مسيرة جسر ميناء سيدني التي «أظهرت بوضوح وجود مزاج شعبي قوي يدفع الحكومة إلى التحرك، حتى لو كان رمزياً».
الواقع العملي — ما الذي تغيّر فعلاً؟
نشطاء المؤيدين للفلسطينيين يرون أن البرودة الدبلوماسية الأسترالية تجاه إسرائيل لا تتعدى كونه رمزية سطحية، وأن التراشق بين الحكومتين مجرد عرض درامي يخفي تحالفاً مثيرًا للجدل. المتظاهرون في 3 و24 أغسطس قدموا مطالب محددة لما يريدون أن تفعله الحكومة؛ ومن أبرز هذه المطالب فرض عقوبات على إسرائيل ووقف تجارة السلاح ذهاباً وإياباً. لكن قادة الحركة يشيرون إلى أن الواقع خلف الكواليس لا يزال يمضي كالمعتاد.
«شهدنا واحدة من أكبر المسيرات في تاريخ أستراليا، وكانت المطالبة واضحة بفرض عقوبات على إسرائيل ووقف تجارة السلاح الثنائي» كما قالت الناشطة ناصر، مكررة نداءات منظمات حقوقية عدة منها منظمة العفو الدولية. «وأعتقد أن الحكومة اضطرت إلى تحرك عاجل لامتصاص الغضب الشعبي، لكنها لم تذهب بعيداً بما فيه الكفاية.»
بحسب جمعية كبار الباحثين في مسائل الإبادة الجماعية، فـ اسرائيل ترتكب «جرائم تمثل إبادة جماعية» في غزة — تصريح أثار نقاشاً واسعاً.
على صعيد المعدات، تزود أستراليا أجزاءً تستخدم في مقاتلات إف-35 الإسرائيلية، أبرزها آلية فتح أبواب عنابر القنابل، وهي آلية لا تُنتجها أي دولة أخرى. الحكومة الأسترالية تنفي أنها تزود إسرائيل بأسلحة قتالية، وتؤكد وزيرة الخارجية بيني وونغ أنهم يزودون «مكونات وأجزاء غير قاتلة بطبيعتها»؛ غير أن تعريف الأمم المتحدة يعد هذه القطع جزءاً من تجارة السلاح.
في ظل هذا الخضم، يشكك بعض نشطاء الحركة الفلسطينية في صدقية وفاعلية المواقف الأسترالية. مطالب أخرى للحركة تشمل تشديد العقوبات الأسترالية على إسرائيل — حتى الآن فرضت الحكومة عقوبات مالية وقيود سفر على وزيرين إسرائيليين من اليمين المتطرف، إيتامار بن-غفير وبيزاليل سموتريتش — وطرد سفير إسرائيل من البلاد.
بدلاً من ذلك، اتخذت الحكومة الأسترالية الأسبوع الماضي خطوة أُثنت عليها إسرائيل: أمرت بطرد سفير إيران من البلاد، مستندةً إلى مزاعم بأن الحكومة الإيرانية توجيهت لها هجمات معادية للسامية في سيدني وملبورن. ربطت أجهزة الاستخبارات طهران بحريق متعمد استهدف مقهى في سيدني في أكتوبر الماضي، وبهجوم على كنيس في ملبورن في ديسمبر، بحسب ما صرح به ألبانيز. وتُعد هذه هي المرة الأولى التي تطرد فيها أستراليا سفيراً منذ الحرب العالمية الثانية. وطالبت إيران رسمياً برفض هذه الاتهامات.
من جانبها اعتبرت إسرائيل أن خطوة الطرد جاءت نتيجة «تدخل حازم» من رئيس وزرائها، وفق ما قال المتحدث ديفيد مينسر. أما الحكومة الأسترالية فرفضت أن تكون قد استجابت لضغوط إسرائيل؛ وقال بَرك للـABC إن فكرة التدخل الإسرائيلي «سخافة تامة».
تسلط هذه الحوادث الضوء على الحبل الدبلوماسي الدقيق الذي تحاول أستراليا أن تمشي عليه. داخلياً، لا يزال السخط حول موقف الدولة من إسرائيل يغلي على جانبي الطيف السياسي، لكن الخبراء يرون أن هذا الخلاف الدبلوماسي من غير المرجح أن يترك أثراً دائماً في العلاقات بين البلدين.
«الإحصاءات الفعلية لا تشير إلى أن هذه علاقة استراتيجية كبرى بالنسبة إلينا» يقول بارميتر. «هل ستخسر أستراليا كثيراً؟ ليس حقاً في هذه المرحلة. ولا أشك في أن كل هذا سينتهي إلى ما يشبه التئام الجراح، لأن الروابط الإنسانية بين أستراليا وإسرائيل قوية.» شركة غيتي للصور الفوتوغرافيه
مكتبة عالمية للصور ومقاطع الفيديو عالية الجودة