دونالد ترامب — أول رئيس أمريكي صادق

كل حقبة من الحكم الأميركي حملت فضيحة أو أكثر، وما يميّز حقبة ترامب هو تحويل الفضيحة إلى أيديولوجيا حكم. تبدو مغرية الفكرة القائلة إن فساد حكم ترامب — من الربح السافر إلى تحويل الدولة أداةً للانتقام والإثراء الشخصي — انحراف عن الديمقراطية الأميركية، لكن الحقيقة أكثر إثارة للقلق: إنه مرآة. الفرق بين عصر ترامب وسوابقه ليس في وجود الفساد، بل في وضوحه وفي عجز الأمة الجماعي عن الشعور بالاستنكار حياله.

لعقود كان الفساد في الولايات المتحدة يعيَّن أخلاقياً كانحراف عن نظام يُصوَّر شرعياً. من أرباب السكك الحديدية وبلدات الشركات في القرن التاسع عشر إلى باب التدوير بين وول ستريت وواشنطن في القرنين العشرين والواحد والعشرين، اعتمد الرأسمال الأميركي دوماً على تحويل المنصب العام إلى منفعة خاصة. عندما تحوّل السياسيون إلى لوبيستيين ومتداولين داخليين معتادين، وعندما كتبت الشركات التشريعات، وعندما مُنحت إنقاذات حكومية لمديري بنوك ومانحي سياسيين، وعندما ازدهر كبار المسؤولين في مؤسسات الصحة على حساب العمال والمرضى، غُطّيت آليات الفساد بلبوس المهنية والكفاءة والخبرة. علّمنا النظام النيوليبرالي أن نربط الفضيلة بالنجاح ونرَ قيمة أخلاقية فيما يبرزه السوق.

بحلول وصول ترامب، اصبح الفساد طبيعياً بوصفه واقعية سياسية. لم يأتِ ترامب ليبدّل الممارسات فحسب، بل لنزع الستائر المؤدّبة عنها — ليس في السياسة الداخلية فحسب بل في السياسة الخارجية التي طالما غطّت الولايات المتحدة عنفها بلغة الديمقراطية وحقوق الإنسان. عمليات القتل خارج نطاق القانون التي نفّذت بأوامر أحادية بضربات عسكرية في مياه لاتينية، على سبيل المثال، ليست انقطاعاً عن سلف أميركي بل تعبيرها العاري الأكثر وضوحاً، عرضٌ مكشوف لممارسات كانت الإدارات السابقة تمارسها تحت عباءة النكران والتلطيف. وبالمثل لم تكن وحشية ووحشية وكالة الهجرة والجمارك تحت حكم ترامب جديدة كلياً؛ بل كانت نسخة مُفَجَّرة ومسرحية مما روّجه سلفه باراك أوباما — الذي لُقّب بـ«رئيس الترميّل» لأنه مدّ مساراً ادارياً مهد لعمل أشخاص مثل توم هومان، الذي نال من أوباما في 2015 جائزة رئاسية اعترافاً بخدماته المميزة نظراً لشغفه بإنجازات توقيف المهاجرين وفصل الأطفال عن أهلهم واحتجاز البشر في معسكرات الاعتقال.

يقرأ  حكمةٌ آتية بلا توقُّع — حكاية آكاالدرس غير المتوقع: قصة آكا

سخافة فساد ترامب ووقاحته — المحسوبية، والنهب، والتعاملات الذاتية، والمزاد العلني على العقود والعدالة — لا تصدمنا لأنها تبدو تعبيراً صادقاً عما كنا نعلمه بالفعل: أن حكوماتنا ومؤسساتنا تخدم الأثرياء الذين يملكونها، مباشرة أو عبر تبرعاتهم والمصالح التي يوظفونها أو عبر شبكات النفوذ والرشوة والابتزاز. لقد حُلَّ مكان الغضب الذي كان من الممكن أن ينشب بغضّ الطرف المملّ عن أن الأمور كانت تسير هكذا دائماً.

في هذا المعنى، ليس ترامب شذوذاً بل كشفاً. إذا سوّقت إدارات سابقة الرأسمالية كجدارة تحفظ كبرياء المليارديرات والسياسيين الذين سمحوا لهم بالدخول إلى السلطة، فإن ترامب يجسدها كهوية أولية: شهوتها المفتوحة وطمعها غير المبرّر. فسادُه ليس مرضاً في النظام بل حقيقة النظام المُنكرة تتجسّد.

المنهَدم ليس الشرعية فقط بل البنية النفسية التي كانت تجعل اللاشرعية تبدو مرفوضة. ما كان يُعاش كخطيئة صار الآن يُحتفى به كحقيقة مفصح عنها. الضمير الأعلى لم يعد يمنع بل يأمر بالاستمتاع بمظاهر القوة العارية وبتواطئنا معها.

في مجتمع خضع كل مجال من مجالاته لمنطق التكديس والربح — حيث أصبحت الطبابة والتعليم وحتى الرعاية محكومةً بالربح — فإن فضح الفساد لا يولد تجديداً أخلاقياً جماعياً. بل يؤكد ما يشتبه به الجميع: أنه لم يبقَ ترتيب أخلاقي للدفاع عنه. النتيجة هي شلل سياسي؛ نستطيع تسمية الفساد لكن لا نقدر على مواجهته، لأن المواجهة تتطلب تفكيك النظام ذاته الذي رُبّينا على اعتباره حتمياً وقاعدة أمتنا كما نعرفها.

تفشل الردود الليبرالية على الفساد لنفس السبب. فهي تستند إلى النداء للأخلاق — إلى الحسن والنزاهة والعدالة — من دون مواجهة حقيقة أن هذه القيم فارغة من البنية المؤسسية والأرضية الثقافية المستقرة. اليمين، بالمقابل، تعلّم تسليح هذه الفراغات. تكمن عبقرية ترامب في قدرته على تحويل الفساد إلى عرض، وصنع من وقاحته أصالة يحسّ بها كثيرون ومن عنفه حرية. يتعرّف أنصاره بحق على أن الفساد متغلغل في حياة النخبة؛ لكنهم يخطئون في تحديد مصدره: يرون الانحلال في البيروقراطيين لا في المليارديرات، في المهاجرين لا في الاحتكارات.

يقرأ  المحكمة تلغي الحكمعن امرأة كورية جنوبية بعد أن عضّت لسان مهاجمها

إذا كان الفساد لم يعد يستثير ردة فعل معنوية، فضلاً عن ثورة شعبية، فذلك لأن «المقاومة» تحت علامة الحزب الديمقراطي قد تم تسويقها. أصبح الاستنكار أسلوب حياة، والسخرية شارة تميّز. تم تسليع النقد السياسي والإدانة، ودمجهما في صناعة الثقافة — آلة تحول الاشمئزاز الأخلاقي إلى سلعة وحكم القصاص إلى كتب مبيعـة بجوار مذكرات ساسة فاسدين. عندما تتحول السياسة إلى ترفيه والغضب إلى جماليات شركاتية، لم يعد على الفاشية أن تتنكر كفضيلة؛ يكفيها أن تَعرض عرضاً أفضل من خصومها المزعومين.

يستمر فساد ترامب دون رادع، ليس لأن الناس لا يروه، بل لأنهم لم يعودوا يصدقون بإمكان أفضل. أن تستنكر يعني أن تؤمن بوجود عالم أخلاقي يمكن تنتهكه. ما نواجهه الآن أظلم من ذلك: مجتمع لم يعد يؤمن بإمكانية خلاصه.

إعادة بناء مخيلة أخلاقية تتطلب أكثر من كشف الفساد؛ إنها تتطلب تأسيس مؤسسات عامة ومدنية حقيقية مصممة لخدمة الطبقات العاملة لا مصالح الأثرياء، والاستثمار في أشكال من الرعاية الجماعية المتبادلة التي تمنح الأخلاق الديمقراطية حياة وقيمة ملموسة.

الفساد يزدهر في خراب التضامن. لمعارضته بجدية يجب أن نبني مجتمعاً تكون فيه الحقيقة والنزاهة ليستا أداءً فردياً بل غاية عامة مشتركة، مواجهة لماضينا الوطني القذر وانطلاقة حقيقية عَنْه.

وجهات النظر المعبر عنها هنا تخص كاتب المقال ولا تعكس بالضرورة سياسة الجزيرة التحريرية.

أضف تعليق