ربما ضيعت إسرائيل فرصة قلب السرد أمام المحكمة الجنائية الدولية، لكنها لا تزال تملك فرصة أمام محكمة العدل الدولية

المزيج المتقلّب بين السياسة والقانون حاضر دائماً في قضايا المحاكم الدولية، لكن أثر هذا المزج يتضخّم عندما تصبح القضية على حافة الحسم.

في أبريل الماضي حققت إسرائيل نصراً قانونياً نادراً أمام غرفة الاستئناف في محكمة العدل الدولية الجنائية، وكان ذلك من تلك اللحظات النادرة التي سمحت للمحامين الإسرائيليين بالوقوف بثقة أكبر والقول إن محاولة تقديم دفوع قانونية للدولة اليهودية لها مدلول وجدوى ولا تبدو سُدىً.

ولو أنّ الجيش الإسرائيلي بذل جهداً منظماً لعرض جرائمه الدفاعية بشأن حرب إسرائيل وحماس، لكان لدى إسرائيل حزمة جدّية من الحجج للدفاع عن أعمالها العسكرية في مناطق عديدة.

كما أنّ تردّي وضع الأمن الغذائي في غزة إلى درجة خطيرة— وعدم المحافظة على مستويات الإغاثة الإنسانية التي وُجدت خلال أشهر وقف النار من يناير إلى مارس— سحب من يدّ إسرائيل القدرة على نفي مزاعم “التجويع” التي هدأت إلى حدٍّ ما لعدة أشهر.

وأيضاً، لو تعلّم الجيش من عشرات الحوادث التي قتل فيها عن طريق الخطأ عمال إغاثة أو صحفيون في مواقع حسّاسة مثل المستشفيات، وكان قد أُعلِن أن كتائب حماس الأربع والعشرون قد هُزمت بالفعل صيف 2024، لما كان هناك مبرر لمخاطرة مهاجمة مثل هذه الأهداف بعد ذلك، وبالتالي كان يمكن تفادي حوادث مأساوية بارزة تزود النار وقوداً وتثير خوف القضاة من أن منح إسرائيل هامشاً سيؤدّي إلى مزيد من مزاعم جرائم الحرب أو حوادث وفيات جماعية بالخطأ.

أوامر الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الأسبق يوآف غالانت وصفها الكاتب بأنها سخفية ولا أساس لها. لكن إسرائيل سارت في الاتجاه المعاكس في هذه الثلاث قضايا الكبرى تماماً بينما دخلت مرحلة كان على محكمة الدرجة الأولى فيها أن تقرّر ما إذا كانت ستظل متمسّكة بموقفها الأصلي الداعي إلى تحقيقات جنائية وإصدار مذكرات اعتقال لنتنياهو وغالانت، أم أنها ستتراجع بعدما حذّرت غرفة الاستئناف من أنها استبقت الأحداث.

يقرأ  وقّعت الرئيسة دينا بولوارتي قانون العفو في بيرو رغم موجة الاستنكار والاحتجاجات— أخبار حقوق الإنسان

السبب في بقاء السؤال معلقاً هو أن غرفة الاستئناف لم تُنهِ القضية ضد إسرائيل؛ بل قالت إن المحكمة الأدنى استعجلت الأمر دون أن تحلل وتوازن كل دفوع إسرائيل بشكل كامل.

وهذا يجعل قضية إسرائيل قضية على الحافة.

منذ أغسطس 2024، لم يصدر الجيش الإسرائيلي أي تحديث كبير بشأن أكثر من 90 تحقيقاً جنائياً داخلياً في صفوف جنوده، ومئات التحقيقات التأديبية، وأكثر من ألف تحقيق أولي متعلّق بالقتال في غزة.

صحيفة جيروزاليم بوست نشرت تقارير حصرية عن جولات متكررة من التوقّعات لإصدار تحديث كان مرجعياً منذ يناير الماضي لكنه تأجل مراراً.

مصدر قانوني في الجيش قال إن التأخير يعود إلى تعقيد وطول أمد الحرب، ومع ذلك كان بالإمكان إصدار تحديث جزئي قبل سنة أو قبل ستة أشهر على الأقل بالنسبة لعشرة أو عشرين قضية بارزة (لاسيما أنّهم كانوا على وشك فعل ذلك).

مصادر عسكرية تنفي أن يكون التأخير نتيجة خوف من هجوم داخلي من أعضاء الائتلاف اليميني المتشدد الذين يعارضون تقريباً أي تحقيقات في سلوك الجيش أثناء الحرب. ومع ذلك، قد تكون الضغوط مغروسة بعمق في أساليب عمل هؤلاء إلى درجة تجعلهم لا يدركون مدًى البطء والتفاعل السلبي الذي بات يطبع تعاملهم مع القضايا الإشكالية.

أو أنّهم فقدوا الثقة بفرص إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية رغم الانتصار في أبريل — وفي هذه الحالة ليس هناك استعجال.

أو أن بعض المصادر الأخرى في الجيش أخبرت الصحيفة أن جزءاً كبيراً من غزة قد دُمر، وقُتل عدد هائل من المدنيين، حتى بات من المستحيل عملياً على الجيش التوصّل إلى استنتاجات واضحة في كثير من القضايا، رغم أنه نجح في ذلك في حروب أصغر.

إذا كان هذا صحيحاً، فتصبح كل محاولة لتأخير التحقيق في حادث جديد أكثر إشكالية.

يقرأ  منطقة مدارس ويتنال في ولاية ويسكونسن تعتمد حلول تكنولوجيا التعليم التفاعلية والقابلة للتكيُّف لدعم الرياضيات والعلوم ومهارات القراءة

أما أخذ وقت أطول فقد يساعد على الوصول إلى جوهر القضية أو لا يساعد — وفي الحالة الثانية ينبغي الحسم في القضايا بسرعة أكبر ممّا كان عليه في السابق.

ومن الممكن أيضاً أن تكون المدعية العسكرية العامة في الجيش، يفتات تومر يروشالمي، تنتظر إلى أقصى حدٍّ ممكن لإصدار قرارات جدلية، بحيث إذا هاجمها الساسة ستكون قد اقتربت من نهاية ولايتها.

الأسبوع القادم تُكمل عاماً رابعاً من ولايتها؛ رسمياً من المقرّر أن تستمر وظيفتها خمس سنوات. كثير من المحامين الكبار والمدعين العسكريين في الجيش أجلوا قراراتهم الأكثر جدلية إلى نهاية ولاياتهم.

كل ذلك قبل أن نصل إلى قضية “التجويع” وانعدام الأمن الغذائي.

من مارس إلى مايو، منعت إسرائيل إدخال إمدادات غذائية جديدة إلى غزة. وكان ادعاءها آنذاك بأن هناك مخزونات تكفي واضحاً إلى حدّ أن لم تكن هناك مجاعات على نطاق واسع خلال تلك الأشهر.

لكن شهور الحظر أفرغت معظم مخزون غزة الغذائي، ما يعني أن أي تأخير لوجستي في مايو أو يونيو عند المعابر أو نتيجة عمليات عسكرية على طول مسار التوصيل قد يضع بعض الغزاويين فجأة في حالة تهديد حقيقية للأمن الغذائي.

لهذا السبب تماماً، قبل شهرٍ واحد قررت إسرائيل قلب سياستها السابقة والسماح بتدفق واسع للمنظمات الإنسانية إلى غزة بدلاً من السماح الانتقائي الذي كانت تمارسه. لكن الضرر كان قد وقع بالفعل. فالأمر لا يقاس فقط بغياب المجاعة الشاملة؛ فربما وقعت حالات تجويع محدودة، بينما ارتفعت أعداد من يعيشون في حالة خطرة من انعدام الأمن الغذائي.

بعد أن نجحت إسرائيل في تحييد ادانة قضايا التجويع لفترة طويلة من الحرب، وبعد حوالي 21 شهراً من اندلاعها وقعت في فخ من صنعها عندما اقتربت كثيراً من خط الحاجة الغذائية الدنيا في غزة ووقعت على السجل العام بأنها حجبت الغذاء لشهرين في الربيع.

يقرأ  طيار مؤثر يبلغ 19 عاماً: لا أزال عالقاً في القارة القطبية الجنوبية بعد تعليق قضيتي — المسؤولون يرفضون السماح لي بالعودة جواً

أخيراً، ما الفائدة الحقيقية التي جنتها إسرائيل من هجمات حديثة استهدفت عناصر حماس الذين ارتدوا قُبَّعات مزدوجة زوراً باعتبارهم صحفيين؟

قد يكون من القانوني استهداف هؤلاء الأفراد، لكن إذا كانت كتائب حماس الأربع والعشرون قد انهزمت صيف 2024، فما جدوى قتل إرهابي آخر من حماس مقارنة بالإدانة الشديدة التي تتلقاها إسرائيل عندما تقتل صحفياً، سواء كان مزدوج الصفة أم لا؟

وكم قدر الشك المعقول الذي تتوقعه إسرائيل بعد حوادث مثل ذلك الذي قتل فيه صحفيون عن طريق الخطأ يوم الاثنين، في وقتٍ لم تبخل فيه مؤخراً بإجراءات أدت عمداً إلى مقتل صحفيين؟

ليست المسألة أن إسرائيل بلا دفوع في الحالتين، أو أنه لا توجد فروق دقيقة بين الحالات المتفاوتة. فالفروق موجودة. لكنها تبهت أمام الديناميكيات العامة للحرب، خاصة وأن آخر مرة مكّنت فيها حماس فعلاً من تهديد إسرائيليين كان نحو يناير 2024، أي قبل زمن ليس بالطويل في سياق الحرب.

مع علم إسرائيل بأنها كانت تملك فرصة استثنائية أمام المحكمة الجنائية الدولية في هذه الفترة المميّزة، فإنّ القدس عمليا أهدرت تلك الفرصة دون أن تبذل معركهً قانونية جدية.

ومع ذلك، فإن المحكمة الجنائية الدولية تلاحق “فقط” حالياً نتنياهو وغالانت، بينما محكمة العدل الدولية تُحاكم النظام الإسرائيلي بأكمله.

الأمر الإيجابي أن إسرائيل أقنعت قضاة محكمة العدل الدولية في وقت سابق من هذا الصيف بمنحها مهلة حتى يناير 2026 للرد على تهم الإبادة الجماعية الموجهة إليها.

ربما تستغل إسرائيل الأشهر الأربعة المقبلة لتقديم ملف أدقّ وأكثر شفافية وثباتاً أمام محكمة العدل الدولية مما قدّمت أمام المحكمة الجنائية الدولية.

أضف تعليق