رغم خسائر بشرية هائلة.. كيف تعيد روسيا تعبئة قواتها العسكرية؟

عندما أصدر الرئيس فلاديمير بوتين أمراً بغزو شامل لأوكرانيا عام 2022، ترك إيفان تشينين حياته المريحة طالباً في موسكو ليعمل متطوِّعاً في إيصال المساعدات إلى جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين في شرق اكرانيا، اللتين تطالبهما موسكو اليوم باعتبارهما «أراضيها الجديدة».

بعد عودته من رحلة إلى المناطق المحتلة في العام السابق، خاض تشينين التجربة أكثر فانضم إلى وحدة المتطوعين «شلال الرعد».

«كنت أعمل مشغِّلاً لطائرة استطلاع من دون طيار»، قال تشينين لقناة الجزيرة. «كانت مهامي تشمل المراقبة والاستطلاع لأراضي العدو. إذا تم رصد هدف، أرفع تقريراً إلى القائد، ثم نتابعه؛ بعدها تتولى المدفعية أو أنظمة الصواريخ العمل».

تشينين واحد من نحو نصف مليون شخص التحقوا بالخدمة العسكرية في روسيا العام الماضي، سواء بعقود أو بوحدات تطوعية.

بينما تكافح أوكرانيا نقصاً في اليد العاملة لدرجة أن ضباط التجنيد يواجهون اتهامات باحتجاز شبان من الشوارع، لا تبدو روسيا حتى الآن أنها تعاني من تلك المشكلة. في مارس، ادّعى بوتين في اجتماع أن روسيا تجند عناصر جديدة بمعدل مضاعف مقارنةً بأوكرانيا. وأفادت مسؤوليات أوكرانية في كييف في أبريل بأن الجيش الروسي يخطط لزيادة تشكيلاته في أوكرانيا بمقدار 150 ألف جندي هذا العام، فيما صرّح نائب رئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية فاديم سكيبيتسكي في وقت سابق أن «خطط تجنيد الاتحاد الروسي تُنفَّذ بنسبة لا تقل عن 105 إلى 110 في المئة شهرياً»، ما يضعها على المسار الصحيح لتحقيق الحصص المطلوبة بنهاية العام.

تراجع في الخسائر

تقول وزارة الدفاع البريطانية إن أكثر من مليون جندي روسي قُتلوا في زمن الحرب — رقم يستحيل التحقق منه بشكل مستقل لأن روسيا تخفي هذه الإحصاءات، لكنه يتوافق مع تقديرات أجهزة استخباراتية غربية ومراكز دراسات. لكن حسب أوليغ إيكناتوف، محلل الشؤون الروسية في مجموعة الأزمات، أحد أسباب تزايد أعداد الجنود الروس هو أن البلاد باتت تسجّل خسائر أقل.

يقرأ  كيف سيؤثر «مشروع القانون الكبير والجميل» على سداد قرضك الطلابي؟

«يُفسَّر ذلك بتغيير التكتيكات»، قال لإحدى القنوات. «روسيا كادت تتوقف عن استخدام المعدات الثقيلة في ساحة المعركة لأنها عرضة للغاية للطائرات المسيّرة. آخر مرة استخدمت فيها روسيا معدات ثقيلة على نطاق واسع كانت خلال عملية كورسك شتاءً»، في إشارة إلى الهجوم المضاد الأوكراني في غرب روسيا.

«لم تشن روسيا هجمات بجماعات كبيرة من الجنود منذ فترة طويلة. تستخدم مجموعات صغيرة، أحياناً فردين، للتغلغل تدريجياً في مواقع الجيش الأوكراني تحت غطاء الطائرات المسيّرة والمدفعية. هذا يقلل من عدد الضحايا».

هناك عوامل أخرى تلعب دورها. في السنة الأولى للحرب، فرّ آلاف الشبان المؤهلين للخدمة إلى دول مجاورة مثل جورجيا ومنغوليا. دوريات الشرطة فتشت محطات المترو وداهمت مساكن المهاجرين للقبض على ما يُحتمل تجنيدهم. تلك المخاوف من التجنيد القسري تلاشت إلى حدّ كبير الآن.

«في الواقع، منذ الأول من نوفمبر 2022، لا يوجد تجنيد جديد للتعبئة»، قال محامٍ لحقوق الإنسان من منظمة «نداء للضمير» التي تساعد المجندين المؤهلين على تجنّب الخدمة العسكرية. «في الوقت نفسه، فترة التعبئة لا تزال سارية ولم تُرفع؛ أي أن من جرى تعبئتهم ويخدمون حالياً لا يمكنهم الاستقالة حتى انتهاء فترة التعبئة. منذ 2022، بدلاً من التعبئة الإلزامية، طُلِب من المناطق مهمة تجنيد جنود بعقود. فقط الموقّعون بعقود هم من يُسمح لهم بالمشاركة في الحرب».

أضاف المحامي، طالباً عدم ذكر اسمه، أن هذا الارتباك يُستغَل من قِبل مجندين غير أمناء الذين يخبرون المستهدفين بأنهم مجبرون على توقيع عقود طالما أن التعبئة لا تزال قائمة. وقعت حالات تُوقَّع فيها عقود نيابةً عن مجندين، وهو أمر غير قانوني في روسيا.

ويجذب آخرين الراتب السخي. العام الماضي وقّع بوتين مرسوماً منح المجندين الجدد علاوة ترحيبية بقيمة 400 ألف روبل تقريباً (نحو 4,970 دولاراً) من الحكومة الاتحادية، وشُجّعت السلطات المحلية على مضاعفة هذا المبلغ على الأقل، مع حد أدنى للراتب الشهري يبلغ 204 آلاف روبل (نحو 2,500 دولار) ومزايا إضافية مثل مساعدة في القروض. بالنسبة للفقراء وسكان المناطق الريفية المتخلفة، تبدو العروض مغرية.

يقرأ  فيزا و«إمارات للطبيعة» تطلقان مشروع «شعاع» لدعم الابتكار الغذائي ومعالجة أزمة التنوع البيولوجي

«بأي حال، الأكثر عرضة للتجنيد بعقود هم من يعانون الفقر، وكذلك من لفتوا انتباه الشرطة، مثل من يُقبَض عليهم لسرقات بسيطة وجرائم أخرى»، تابع المحامي. «كما أن المهاجرين العمال، والمواطنين الأجانب أو المواطنين الجدد عرضة للتجنيد والإكراه للخدمة بعقود. من الواضح أنه كلما كانت المناطق أفقر وأكثر ركوداً اقتصادياً، زاد تعرضها لتجنيد الرجال».

جزء كبير من قوات الخط الأمامي يقاتل من أجل حافز أكثر إغراءً من المال: الحرية. طوال النزاع، أُخرج سجناء، بينهم مدانون بجرائم قتل واغتصاب، من زنزاناتهم، نُزِّل سلاحاً وأُرسِلوا للقتال في اوكرانيا. وُصِفوا بأنهم قابلون للاستبدال، فطُلب منهم اقتحام مواقع أوكرانية في هجمات موجية بشرية في معارك عنيفة مثل القتال في باخموت منتصف 2023، حيث وُجهت اتهامات بارتكاب جرائم حرب. اذا نجوا، عادوا إلى روسيا أحراراً واستُقبلوا أبطالاً وكأنهم نالوا فرصة توبة.

لكن إعادة التأهيل لا تنجح دائماً: يعود الانخراط في الجريمة شائعاً بين المحاربين القدامى، الذين يدركون أنه إن أُلقي القبض عليهم مجدداً يمكنهم ببساطة أن يعاد تجنيدهم. العام الماضي، وسّعت الحكومة البرنامج ليشمل من هم قيد المحاكمة أو قيد التحقيق فقط.

«بمعدل وسطي، يخرج نحو 50 شخصاً من المستعمرات العقابية في تيار واحد، تقريباً مرة كل أسبوع، فبإمكانك تخيل حجم التسرب»، قدّر إيفان تشوفلياييف، المتحدث باسم منظمة «سِر عبر الغابة»، التي تساعد الجنود على تجنّب التعبئة.

جزئياً نتيجة لذلك، تراجع عدد المسجونين الهائل سابقاً في روسيا بمقدار 120 ألف شخص خلال العامين الماضيين ليصل إلى مستوى قياسي منخفض بلغ نحو 313 ألف سجين، وفق تقرير في صحيفة موسكو «MK» صدر في فبراير. تغلق الآن المؤسسات الإصلاحية في أنحاء البلاد.

إلا أن هذه الأساليب ليست دائمًا ضرورية. فقد أظهر استطلاع أجراه معهد ليفادا المستقل في وقت سابق من هذا العام أن 75% من الجمهور الروسي يؤيدون الحرب، ويُنجذب مجندون أمثال تشينين بدافع الوطنية.

يقرأ  ارتفاع جديد في أسعار الذهب في السوق المصرية

“الشيء الاول والأهم هو حب الوطن. كل شيء آخر ثانوي.”

“كل الرجال الذين خدمت معهم كانوا روسًا بحقّ بالمعنى الأوسع للكلمة، لأنهم لبّوا نداء الحرب بقناعات قلبية. أذكر بالخصوص أخي في السلاح البورياتي — بالنسبة إليّ، هو مثال الأخوّة والولاء الحقيقيين.”

أضف تعليق