سوريا بلا الأسد أخفّ

عام على انقلاب المباراة: سيرة سوريا ما بعد الأسد

سنة مضت قلبت الحرب التي بدا أن رئيسها السابق بشار الآأسد قد حسمها، رأساً على عقب. قوة متمردة انطلقت من إدلب، المحافظة الحدودية مع تركيا، واقتربت مسرعة نحو دمشق تحت قيادة رجل عرف باسمه الحربي “أبو محمد الجولاني” وائتلافه المسلّح «هيئة تحرير الشام». اسمه الحقيقي أحمد الشّaraa، لكنه تبنّى شخصية سياسية جديدة سرعان ما أصبحت تسود المشهد السوري.

اليوم، يترأس الشّaraa حكمًا انتقالياً بينما يقيم بشار آلأسد في منفاه المذهب إلى روسيا؛ والسورية بدورها ما زالت خرائب: في كل مدينة وبلدة زرتها خلال الأيام العشرة الماضية، يعيش كثيرون في هياكل مبانٍ انتزعت الحرب أحشائها. ومع ذلك، تبدو الحياة أخف قليلاً بلا ثقل النظام القمعي السابق، رغم أن تحديات الدولة الجديدة ضخمة ومعقدة.

تحولٌ وتكيّف

في الخارج وجد الشّaraa مسارا أسهل مما لقيه داخل البلاد؛ فقد أقنع الرياض والغرب بأنه أفضل رهان للاستقرار السوري. ترتيب لقاء موجز بينه وبين الرئيس الأمريكي آنذاك، دونالد ترامب، برعاية ولي العهد السعودي، ثم الإشادة المتلفزة من ترامب، شكلتا شهادة دولية على قبوله كقائد بديل. لكنه على الأرض يواجه قيودًا حقيقية: سلطته لا تمتد بشمولية إلى الشمال الشرقي حيث يهيمن الأكراد، ولا إلى مناطق جنوبية يطالب فيها الدروز باستقلال مدعوم إسرائيليًا، كما أن العلويين على الساحل يشعرون بقلق عميق بعد موجات العنف الطائفية التي شهدوها.

سجل الشّaraa السابق في الجهاد، بما في ذلك قتاله إلى جانب تنظيمات متشددة في العراق ووجوده في قيادة الجماعات التي تطورت إلى تنظيم الدولة، ظل يلاحقه. ومع ذلك، وبمرور الوقت، تبدو مواقفه أرشد وأكثر واقعية: فرغم أن كثيرًا من المسيحيين وسواهم يذكرون ماضيه الجهادي بصعوبة، أبلغ زوار إدلب أن خطاباته وممارساته باتت تميل إلى براغماتية تحاول أن تستوعب طيفًا دينيًا ومذهبيًا واسعًا داخل سوريا.

يقرأ  نهضة الواقع الافتراضي بلا خوذة — إطلاق الكتاب الإلكتروني

الانهيار العسكري لإمبراطورية الأسد

في بداية ديسمبر الماضي لم يكن سهلاً تصديق سرعة زحف HTS نحو المدن الكبرى؛ فقد استولى مقاتلوها على حلب خلال ثلاثة أيام—انجاز سريع إذا ما قورن بالسنوات المتمادية من القتال بين 2012 و2016 والتي حسمتها في النهاية ضربة الطيران والمدفعية الروسية لصالح النظام. وبعد انهيار الروح القتالية لدى جنود النظام والمجندين المرهقين، تلاشت قدرات الجيش في كثير من المناطق، الأمر الذي سهّل استيلاء قوى المعارضة المسلحة على مفاصل السلطة في العاصمة.

تهديدات متجددة وخلايا داعش

حكم الشّaraa انتُخب في ظل مخاوف أمنية شديدة: خلايا تنظيم الدولة لا تزال نشطة وإن كانت ضعيفة نسبيًا الآن، وهاجس الاغتيال أو هجمات التفجير الجماعي في دمشق ظل يحيط بالحكم الجديد. في الفضاء الإلكتروني شنّ متطرفون هجوماً شعائريًا عليه باعتباره «مرتدًا» بعد انضمامه ظاهريًا إلى التحالف الدولي ضد داعش، وهو توصيف يمكن أن يبرر عمليًا العنف ضده. إلا أن هجمات التنظيم هذا العام اقتصرت في معظمها على قوات كردية في الشمال الشرقي، مع تسجيل بعض الاعتداءات على عناصر وأفراد مرتبطين بالنظام السابق داخل مناطق الحكومة.

إقناع الغرب والهبة الدبلوماسية

نجح الشّaraa سريعًا في كسب قبول غربي ملحوظ: خلال أسابيع من استلامه السلطة استُقبل وفد دبلوماسي أميركي رفيع وألغيت مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار كانت مطلوبة للقبض عليه. ومنذ ذلك الحين بدأت تخفيفات في العقوبات تدريجاً، وتعليق قانون قيصر الأشدّ، وتبلور مسار دبلوماسي أدى إلى زيارته للبيت الأبيض—لقاء رمزي اتسم بلقطات إعلامية خفيفة لكنها حملت في طياتها رسالة سياسية عن قبوله كطرف فاعل. السعودية وأطراف غربية ترى في الشّaraa الخيار الوحيد القادر مبدئيًا على إيقاف فتنة إقليمية أوسع لو عادت سوريا للانهيار.

يقرأ  الأمم المتحدة تطالب بإنذارات عالمية للكوارث مع تصاعد موجات الطقس القاسية

ومع ذلك، فإن قدرته على فرض ولاية مركزية على كل الأراضي محدودة: لم ينجح بعد في إقناع أو إجبار الأكراد والدروز والخلايا المحلية في الساحل بقبول سلطة دمشق بصورة شاملة، والقلق العلوي ما زال قائماً.

العدالة البطيئة وندوب الانتقام

أثار مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قلقه من بطء المساءلة عن الانتهاكات السابقة. بينما خطت السلطات الانتقالية خطوات أولية، لا تزال الحاجة إلى تحقيقات جدية ومساءلة حاسمة قائمة وإلى آليات عدالة انتقالية شاملة. في المقابل، شهدت السنة الماضية انتهاكات وقتلاً جماعياً في مناطق ذات أغلبية علوية ودينية أخرى—حيث أبلغت تقارير الأمم المتحدة ومصادر محلية عن مئات القتلى، بينهم نساء وشيوخ وأطفال—كما رافق ذلك تصاعد لغة خطاب الكراهية على المنصات الرقمية والواقعية. وقد تعاونت الحكومة الانتقالية جزئيًا مع تحقيقات الأمم المتحدة، وجرى تقديم بعض المتهمين للمحاكمة، لكن الشكوك حول قدرة الحكومة على احتواء المسلحين الملتحقين بها أو الذين يدّعون الانضمام إلى صفوفها لا تزال عميقة.

مخاطر جنوبية وتصعيد سـيــاسي مع إسرائيل

الوجود الإسرائيلي على مرتفعات الجولان المحتلة وتوسعات الضربات الجوية الإسرائيلية بعد سقوط النظام السابق أعادا إلى الواجهة سؤال الأمن القومي السوري. إسرائيل قامت بضربات واسعة استهدفت ما تبقى من قدرات النظام العسكرية وسعت نشر قوات على طول الخط الحدودي، وأدى ذلك إلى احتكاكات في قرى حدودية مثل بيت جن، حيث شهدت مواجهة مسلحة ووقائع مأسوية راح ضحيتها مدنيون، بينهم مراهقات وجرحى. هذه العمليات أعادت إشعال المخاوف حول سيادة سوريا وقدرت دمشق على التفاوض حول ترتيبات أمنية مع تل أبيب، في ظل مطلب إسرائيل إبقاء مناطق منزوعة السلاح أو مستقلة عن سيطرة دمشق.

قصص إنسانية: بيت جن وعائلة أبو ظاهر

في بيت جن قابلت رجلاً اسمه خليل أبو ظاهر الذي عاد من المستشفى ويده معقوفة من أثر طلق ناري. رواية العائلة عن اقتحام ليلي في الثالثة والنصف صباحًا وما تلاه من إطلاق نار وخسائر إنسانية، بينها وفاة ابنة هبة البالغة من العمر 17 عامًا، كانت تجسيدًا لثمن الصراع الذي ما زال يدفعه المدنيون. أمّ هبة، التي جلست مع نساء الأسرة، لم تطلب سوى أشياء بسيطة لكنها أساسية: سلامة وأمنًـا، وجودًا صحيًا محليًا، ومدرسة لأطفالها، وقالت بصراحة موجعة: «نريد أن ننام ونستيقظ بلا خوف». هذه الكلمات تلخّص خوفًا يوميًّا يعيشه كثيرون في سوريا اليوم.

يقرأ  كوريا الشمالية تنفي إزالة مكبرات الصوت الدعائية عند حدودها

إنجازات وهشاشات

من الناحية الحكومية، سجل الشّaraa نجاحات أولية: بقاؤه في السلطة بعد أن بدا سقوطه ممكنًا، ودعمه الدولي بقيادة ترامب، وتدفق علامات إحياء اقتصادية أولية تشمل صفقات لتحديث منشآت نفطية وخصخصة محتملة للمطارات. لكن هذه الإنجازات لم تُترجم بعد إلى تحسينات ملموسة لمعظم المواطنين: لا صندوق مركزي لإعادة الإعمار، والاهتمام بإعادة الإعمار معفًى غالبًا على عاتق الأفراد، واستمرار توتر طائفي يمكن أن ينفجر مجدداً. كما تعثرت جهود التفاوض مع إسرائيل، وما زال التركيز السياسي والإداري مركزياً حول الشّaraa ودوائر صغيرة من المقربين، في حين يبدو غياب محاولة جادة لبناء مؤسسات حقيقية للمساءلة والحوكمة.

الخلاصة

سوريا من دون آل الآأسد بدت بلداً أفضل بكثير على مستوى الاحتمالات، لكن الواقع اليوم يكشف أن الطريق إلى دولة آمنة ومستقرة عادلة ما يزال طويلاً ووعرًا. دون معالجة عميقة للجراح الطائفية، ومساءلة حقيقية عن الجرائم، وإطار حكم مؤسساتي يُنزع احتكار القوة، ستبقى مخاطر العنف والتفكك قائمة، وسيظل حلم أمّ هبة وأمثالها بليلةٍ ينامون فيها بسلامٍ بعيداً عن متناولهم. الساعات المقبلة والحكومة القادمة—أو استمرارية هذه—ستحدد ما إذا كانت سوريا ستنجو من فخ التاريخ أم أنها ستعود لتدور في حلقة العنف نفسها.

أضف تعليق