اعتقالات وإضراب في صفوف الأطباء: مشهد من العاصمة أديس أبابا
في منتصف مايو، وكان “تيوودروس” يعمل في قسم الطوارئ بأحد مستشفيات العاصمة أديس أبابا، اقتحم اثنان من رجال الشرطة قاعة الطوارئ بينما كان يعالج مرضى. قبل ذلك بأيام شارك الطبيب في إضراب لعاملَي الصحة في القطاع العام احتجاجاً على ظروف العمل المتردية والأجور المتدنية.
أعلنت الحكومه على الفور أن الإضراب غير قانوني، ما مهّد لمواجهة متوترة بين السلطات ومجتمع المهنيين الصحيين، وكان قسم الطوارئ الذي يعمل فيه تيوودروس من الأماكن التي تجسدت فيها تلك المواجهة.
يقول تيوودروس إن الضباط أبلغوه أنهم سيأخذونه للتحقيق دون أن يذكروا سبباً. أمسكوا به وسحبه خارج الغرفة، وحاول زملاؤه التدخل لكن الشرطة تجاهلتهم ونقلته إلى مركز شرطة قريب حيث بقي معتقلاً لأكثر من ثلاث أسابيع. “في تلك اللحظة شعرت بالعجز والعار من بلدي”، روى للحظة الحادثة.
كان احتجازه بداية معاناته. يصف أنه حُشر في زنزانة مع خمسة عشر شخصاً آخرين، ولم يسمح لهم بالاغتسال، ولم يتمكّن من رؤية أسرته أو التحدث إليها. تواصلت الجزيرة مع الشرطة الإثيوبية طلباً لتعقيب، لكن لم يأتِ رد.
قاد الحركة الاحتجاجية ما يسمى حركة المهنيين الصحيين الإثيوبية، وهي تجمّع غير منظم من الأطباء تأسس في 2019. في 19 مايو قدّموا للحكومة قائمة من 12 مطلباً بينها رواتب عادلة، وتأمين صحي، ودعم للنقل، وتحسينات في بيئة العمل. وبعد انتهاء المهلة دون استجابة حقيقية من السلطات بدأ مئات الأطباء بالانسحاب من المستشفيات في مختلف أنحاء البلاد.
ووفق منظمات حقوقية، تبنّت الحكومة تكتيكات قمعية ضد الأطباء المضربين، واعتقلت 47 شخصاً خلال أيام قليلة، وعشرات آخرين في الأسابيع التالية.
كان تيوودروس واحداً من أكثر من 140 طبيباً اعتُقلوا في حملة اعتقالات واسعة خلال مايو ويونيو، بحسب الحركة. أطلقوا موقعاً باسم “صوت الصحة إثيوبيا” لتتبع زملائهم المعتقلين وفترات احتجازهم وتواريخ الإفراج عنهم.
أُطلق سراح جميع الأطباء منذ ذلك الحين وانتهت الإضرابات بعد وعد حكومي بالتعامل مع شكاواهم، لكن الأطباء يقولون إن الالتزامات لم تتجسّد في شكل إجراءات ملموسة.
تقول ليتيسيا بادر، مديرة ملف القرن الإفريقي في هيومن رايتس ووتش، إن “على الحكومة أن تتوقف عن مضايقة وسجن العاملين في الرعاية الصحية وممثليهم وأن تدخل أخيراً في حوار جاد حول شكاواهم”.
من جهتها تقول الشرطة الفدرالية الإثيوبية إن الأطباء الذين اعتُقلوا نظموا “إضراباً غير قانوني” واتُهموا بتعريض حياة المرضى للخطر.
رواتب زهيدة وضغوط معيشية
تُعد رواتب الأطباء في إثيوبيا من الأدنى في شرق إفريقيا، وفق أرقام البنك الدولي؛ البعض لا يتقاضى أكثر من 60 دولاراً شهرياً، مقابل ما يقارب 1800 دولاراً في كينيا المجاورة. أخبرت أخصائية أمراض نسيجية قضت فترة في هرجيسا عاصمة دولة صوماليلاند المعلنة ذاتياً شبكة بي بي سي أن راتبها هناك البالغ 2500 دولار يكفي لإعالة عشرين من زميلاتها في إثيوبيا. واعتُقلت لاحقاً.
أبلغ الأطباء عن صعوبات في دفع الإيجار، وتأمين الغذاء، وتغطية نفقات النقل، وحتى عن عجزهم عن تحمّل تكاليف الرعاية الصحية لأنفسهم. وصف عدد منهم تأثير التضخم الجامح والجمود في الأجور وظروف العمل القاسية بأنها دوافع الإضراب.
أحد الأطباء أفاد أنه ينفق أكثر من ثلثي راتبه البالغ 73 دولاراً على الإيجار، ويلجأ إلى ما أسماه “مشاريع إضافية” منها إنتاج محتوى تجاري محلي، بينما يعمل آخرون في صيدليات أو كسائقين في تطبيقات النقل لتأمين لقمة العيش.
“لا أستطيع حتى الاعتناء بنفسي فكيف أنشئ أسرة؟” قال أحدهم. “أعاني للوصول إلى العمل، ومن الصعب تأمين الطعام، والطب مهنة لا تترك وقتاً كثيراً. نعمل بشدّة فقط لننجو. كنا نتوقع وضعاً أفضل.”
ردّ رئيس الوزراء آبي أحمد في يونيو بأن حكومته تدرك أن الأطباء “مُسحَقون من قِبل الحياة”، في اعتراف بصعوباتهم، لكنه اتهم المضربين بأنهم “انتهازيون سياسيون” و”سياسيون يرتدون معاطف بيضاء”.
تعرض الاقتصاد لضغوط، إذ شهدت إثيوبيا تضخماً مرتفعاً بعد تعويم العملة العام الماضي، ما أضعف قيمة الأجور مع ارتفاع الأسعار في العاصمة. وصلت قيمة العملة المحلية (البير) إلى مستوى قياسي في السوق السوداء، مما دلّ على هشاشة الأوضاع الاقتصادية رغم تهدئة البنك المركزي للمخاوف.
تأثير النزاع والجائحة على الخدمات الصحية
لا تزال البلاد تتعافى من آثار جائحة كوفيد-19 والحرب المدمرة التي استمرت عامين في إقليم تيغراي شمال البلاد، والتي توقّع تقرير أن تُسفر عن خسائر تراكمية تقارب 125 مليار دولار للاقتصاد الإثيوبي بحلول 2027. هذه الأزمات المتزامنة أضافت ضغوطاً هائلة على خدمات عامة كانت هشة أصلاً، ويُعد القطاع الصحي واحداً من أكثرها تضرراً.
نوبات عمل طويلة ورواتب ثابتة
يعاني الأطباء من تأثيرات التضخم وتدهور قيمة العملة بشكل خاص لأن رواتبهم ثابتة وتُدفع بالبير. غالباً ما يُجبرون على تحمل نوبات عمل مرهقة تصل أحياناً إلى ثلاثين ساعة، ويعملون في ظروف نقص شديد في الكوادر والمعدات اللازمة للقيام بواجباتهم.
تعود جذور مشاكل النظام الصحي الإثيوبي إلى محاولات سابقة لمعالجة نقص أعداد الأطباء المؤهلين، وما تزال آثار تلك السياسات مستمرة في شكل أزمات تشغيلية ومعيشية تواجه الكوادر اليوم. 2003 — خلفية وإحصاءات
في عام 2003 كان لدى إثيوبيا 0.26 طبيب لكل 10,000 نسمة، وفق بيانات منظمة الصحة العالمية، مقارنة بكينيا التي بلغت فيها النسبة 1.38 طبيباً لكل 10,000 نسمة وإريتريا التي سجلت 0.42. في تلك الفترة أعلن القائد ميليس زيناوي — الذي درس الطب في شبابه — عزم الدولة على المضي نحو التغطية الصحية الشاملة عبر توسيع التأمين الصحي وتسهيل الوصول إلى الأطباء.
استراتيجية التعويض السريع
تبنت الحكومة سياسة أُطلق عليها اسم «الفيضان» لزيادة أعداد العاملين في الصحة بسرعة، فزاد الالتحاق بكليات الطب وتوسعت مدارس الطب في أنحاء البلاد. ووفقاً لأرقام منظمة الصحة العالمية، نجحت هذه السياسة في رفع عدد الأطباء بنسبة 851% خلال عقد واحد، من نحو 1,936 طبيباً إلى 18,413.
تحلل القيمة الحقيقية للأجور
رغم الزيادة الهائلة في أعداد الأطباء، فشلت الحكومات المتعاقبة في جعل أجورهم تنافسية، في بلد يعاني أصلاً من واحد من أدنى معدلات الناتج المحلي للفرد في أفريقيا. ومع اعتماد قطاع الصحة بدرجة كبيرة على المساعدات الخارجية وفترات تضخمية مرتفعة، تآكلت القيمة الحقيقية لرواتب الأطباء تدريجياً.
انحراف الأولويات
يقول الباحث مولوغيتا جيبريهيوت في مؤسسة السلام العالمي إن الاهتمام الحكومي تبدّل نحو مشاريع بنية تحتية براقة تغيّر أفق العاصمة، متخلياً عن روح التنمية التي تبناها بعض الإدارات السابقة: «التركيز صار على المظهر»، كما صرّح لـ«الجزيرة».
رواتب أقل من مهن أخرى
«كان الإضراب الوسيلة الوحيدة لصوتنا»، قال توودروس في تفسيره للمظاهرات التي شارك فيها الأطباء. وأضاف أنه يفكّر بجدية في ترك المهنة الطبية للالتحاق بوظائف أفضل أجراً في قطاع الخدمات. «أحد أقاربي يعمل سائق شاحنة ويتقاضى نحو 250 دولاراً شهرياً، وهو أكثر من ثلاثة أضعاف راتبي كطبيب» — وهذه المقارنة دفعت بالعديد من الزملاء إلى البحث عن بدائل مهنية أو مغادرة البلاد.
هروب المواهب والاضطرابات الشخصية
غادر الدكتور داغوامي مولوجيتا إثيوبيا خلال موجة الاعتقالات في مايو واستقر لاحقاً في الولايات المتحدة، بعد أن اعتُقل صديقان له وتعرضت صفحته على فيسبوك للاختراق، مما أثار مخاوفه من أن يكون الهدف التالي نظراً لدوره في تنظيم الإضرابات. يقول داغوامي إن الأطباء يضحون كثيراً وفي نهاية المطاف لا يُكافَأون بما يكفي، ما يضطرهم إلى الكفاح لتغطية الاحتياجات الأساسية. كثيرون يغادرون الوطن، والذين يبقون يتخلّون عن المهنة أحياناً.
ظروف العمل والاحتجاجات
عند دخوله المهنة عام 2019 كان على الأطباء العمل مناوبات امتدت إلى 36 ساعة متواصلة مع نعاس شبه تام، ومع معدات طبية بالية حين كانت متاحة أصلاً. أدت هذه الظروف إلى إضرابات خفّضت بعدها ساعات العمل إلى نحو 30 ساعة أسبوعياً في معظم المستشفيات الحكومية، لكن دون تعديل ملموس في الرواتب. «حصلت بعض التحسينات، لكن ظروف الأطباء لم تتحسّن بما يكفي»، يقول داغوامي.
آمال مخذولة
لوليت* تركت الطب للعمل الإنساني. «كان هناك أمل أكبر آنذاك»، قالت عن إضرابات 2019 التي شاركت فيها، وكانت التوقّعات أنّ رئيس الوزراء أبيي، الذي قدّم نفسه إصلاحياً حينها، سيلبي المطالب. حصل نوع من التسوية، لكن الأطباء ظلّوا محبطين وتراكمت مشاكلهم.
قضية دانيال فنتانه
من أبرز الأطباء الذين اعتُقلوا خلال الإضرابات كان دانيال فنتانه، مقيم طب النساء والتوليد ومحاضر في جامعة بحير دار، الذي احتُجز أواخر يونيو واتهم بـ«التحريض والتعبئة والتنظيم». اعتُبره بعض زملائه شخصيةً شبيهة بتشِي جيفارا لدوره في حشد الأطباء، ودعت منظمات حقوقية مثل العفو الدولي إلى إطلاق سراحه، وهو ما تم بعد 27 يوماً، لكن اعتقاله كان ضربة قوية للمعنويات، ووصفت جمعية الصحة الإثيوبية اعتقاله بأنه «خيانة مخزية للعدالة والضمير».
نسب الرضا ونية المغادرة
دراسة أجراها باحثون إثيوبيون في 2020 وجدت أن أكثر من نصف الأطباء كانوا راضين عن عملهم، فيما لم يعبّر سوى 6.8% عن رضاهم عن دخلهم. ودراسة أخرى في 2022 أظهرت أن نحو ستة من كل عشرة أطباء كانوا يفكّرون بترك وظائفهم.
التمويل الصحي والالتزامات الدولية
خصصت إثيوبيا 8.3% من ميزانيتها للصحة في 2023 و2024، ارتفاعاً عن العام السابق، لكن صندوق الأمم المتحدة للطفولة يشير إلى أن التضخم وضعف قيمة البير أديا إلى انخفاض القيمة الحقيقية لهذا الإنفاق. كما أن النسبة تبقى أقل كثيراً من هدف أبوجا 15% الذي التزمت به دول الاتحاد الأفريقي في 2001. هذا النقص في التمويل يفاقم صعوبات التوظيف والاحتفاظ بالكوادر.
إنجازات لازالت ظاهرة وتأثيرها المتناقض
أُشيد بإثيوبيا على توسع نظامها الصحي في أوائل القرن الحادي والعشرين تحت قيادة وزير الصحة آنذاك تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، الذي صار لاحقاً مدير عام منظمة الصحة العالمية: بين 2000 و2019 ارتفعت نسبة الولادات في المرافق من 5% إلى 48%، وتضاعفت تغطية التطعيمات، وانخفضت وفيات الأمهات من 1,400 إلى 420 لكل 100,000 ولادة بين 1990 و2013. لكن للأجيال الجديدة من الممارسين الطبيين، تبدو هذه المكتسبات متباينة مع الواقع الراهن؛ كثيرون يتركّزون الآن في مجالات أكثر ربحية مثل إدارة وسائل التواصل الاجتماعي أو تأسيس شركاتهم الخاصة.
التزام المهنة والقلق على المرضى
«الأطباء يملكون شغفاً بعملهم»، يؤكد داغوامي، «ولا نريد ترك وظائفنا، لكن ظروف العمل تُثقل كاهلنا وتعرّض المرضى للخطر. هذا ليس في مصلحة أحد». في أواخر يونيو عقد رئيس الوزراء أبيي اجتماعاً مع مجموعة مختارة من العاملين في الصحة، محاولاً موازنة الاعتراف بمخاوفهم «المشروعة» بشأن الأجور مع شن هجمات لفظية على من خاضوا إضراباً صناعياً. قال رئيس الوزراء إن الأطباء المضربين لا يفهمون معنى تقديم الخدمة ولا يدركون كيف يُبنى الوطن. وأضاف: «هؤلاء أناس يقلّلون من قيمة كل شيء، من متاحف العلوم إلى المدارس الثانوية وحتى الرواتب».
قال داغوامي: «كانت مشاهدة الاستعلاء والاستخفاف العلني وسجن محترفين مخلصين من أكثر التجارب وجعاً وفردية في حياتي».
حاول الأطباء أن يكونوا بنائين وموجهين نحو الحلول، لكن، كما يشعر، لم ترتقِ الحكومة إلى مستوى التحدّي.
تواصلت قناة الجزيرة مع الحكومة في أديس أبابا للحصول على ردّ، لكنها لم تتلقَّ أي جواب.
الأطباء ينتظرون حالياً أن تسلّم الحكومة ردّها على الالتزام الذي قطعته لمعالجة القضايا التي أثاروها. أما على موقع “صوت الصحة” — الذي أنشئ لتتبع اعتقالات وإطلاق سراح زملائهم — فتتراجع ساعة العدّ بلا هوادة.
إذا لم تُعالج مخاوهم قبل أن ينقضي الوقت، فقد تعهّدوا بالعودة إلى الإضراب.
تم تغيير بعض الأسماء بناءً على طلب الأطباء، خشية أن يؤدي التحدّث إلى التعرض للاعتقال.