عرّاب الجاز الإثيوبي يختم مشواره بآخر حفلةٍ حية

ابتسم مولاتو أستاتكي وهو يرفع ذراعيه تحيةً للجمهور في لقطة الوداع الأخيرة، بعد أن أدار ظهره للمسرح في حفل ختامي أقامه الشهر الماضي في لندن. في ثمانيةٍ وثمانين؟ لا — في الثانية والثمانين من عمره، ودَع رائدٌ موسيقى الجاز الإثيوبية مسيرة أداء امتدت نحو ستة عقود.

حملته مسيرته إلى العالمية: قبل نحو عشرين عامًا اكتسب مستمعين جددا بعدما استُخدمت مقطوعاته في موسيقى فيلم “Broken Flowers” عام 2005، ومؤخرًا أعاد ظهور أحد تسجيلاته في فيلمٍ مُرشَّح لأفضل فيلم الأوسكار “The Nickel Boys” المزيد من الاهتمام بأعماله. لكن منذ ستينيات القرن الماضي كان يمعن في استخدام الأستوديو وغرف التدريبات كمختبرٍ صوتي، حيث مزج أنماطًا موسيقية متعددة ليبلور ما يصفه بـ«علم الإثيو-جاز».

كانت ليلة باردة في نوفمبر قبيل الحفل، لكن داخل مسرح ويست إند امتدت إلى مولاتو دفء العناق الجماهيري؛ جمهور متلهف لمشهدٍ أخير لذلك الكيميائي الموسيقي أثناء عمله. ارتدى قميصًا يحمل عملًا للفنان الإثيوبي أفيورك تيكلي، وتقدم بخطواتٍ رصينة على المسرح، متجاوزًا مجموعة الكونغاس حتى بلغ آلته المميزة — الفيبرفون — حيث أمسك بملاتين مغطاة بالفلين في يده اليمنى وواحدة في اليسرى، فبدأ بنقر الإيقاعات والألحان المسحورة، مدقِّقًا في ضرب القضبان المعدنية الشبيهة بالزيلوفون لإخراج صوتٍ رقيقٍ رنان.

افتتح بأغنيةٍ مستمدة من ترتيلة تعود إلى القرن الرابع داخل الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية، إيماءة إلى تراثه الموسيقي وإلى السلم الخماسي الإثيوبي الذي يمنح صوته مذاقًا فريدًا حين امتزج مع تقاليد الجاز العالمية. بعد الحفل قال مولاتو بصوته الهادئ لهيئة الإذاعة البريطانية: «كان عرضًا جميلًا. استمتعت جدًا» — لكنه تجنّب الخوض في مشاعره عند توديعه جمهوره الدولي.

بالنسبة للموسيقار والملحن الأمريكي دكستر ستوري كان الحفل «مُرًّا حلوًا»: «كان نابضًا بالحياة، مؤدَّسًا وذو طاقة رائعة»، وأضاف متأسفًا لغياب ذلك العبقري عن جولات العالم القادمة. لكن تأثير مولاتو سيبقى حيًا في تسجيلاته؛ فهو يُسجَّل منذ الستينيات، وتقول محبوبة مقيمة في لندن تُدعى جويرية دينو: «غرّة من أراد أن أعرفه على الموسيقى الإثيوبية أو على الثقافة الإثيوبية أُشغّله مولاتو»، مستطردًا بفخر: «لقد استمعوا إليه في جميع أنحاء العالم… أحبوه؛ كان جميلًا جدًا».

يقرأ  هل تُعَدُّ جيني سافيل أعظم رسّامةٍ حيةٍ في المملكة المتحدة؟

وأصرّ مولاتو على مواصلة الترويج للموسيقى الإثيوبية وموسيقى القارة الإفريقية الأوسع، التي يرى أنها لم تنل الاعتراف الذي تستحقه. «أفريقيا قدّمت الكثير ثقافيًا للعالم. لا تُقدَّر كما ينبغي»، قال ذلك بوضوح.

بدأت معرفته بالعالم والثقافات الأخرى مبكرًا؛ وُلد مولاتو عام 1943 في جِمّا جنوب غربي إثيوبيا، وأرسله والداه كما كان مئات الطلاب إلى كلية لينديسفارن بالقرب من ريكسهام في شمال ويلز لاستكمال تعليمه. كان يطمح لدراسة الهندسة، لكن الوقت هناك أوقعه في عوالم الموسيقى فتعلم النفير ثم الترامبيت، ولاحظ مدرّسوه موهبته الفطرية فشجّعوه على تخصيص جهده لتطويرها. «بعد تخرجي كانوا يقولون لي: مولاتو، إن صِرت موسيقيًا فستنجح»، فتبع نصيحتهم والتحق بكلية ترينيتي في لندن.

تذكّر تلك المرحلة في واحدة من أعرق كليات الموسيقى البريطانية بأنها صنعت فارقًا؛ يتلوّن في ذاكرته جلسات العزف المرتجلة في نوادي الجاز مع أصدقائه الموسيقيين. «جو هاريوت [الجامايكي] كان من أعظم عازفي الساكسفون الآلتو وكُنّا نعزف معًا في مكان اسمه مترو كلوب بلندن»، قالها وهو يربط قلبه بالمملكة المتحدة حتى اليوم: «كان لي دائمًا شغف بالعودة إلى هنا».

في ستينيات القرن الماضي انتقل مولاتو إلى الولايات المتحدة ليلتحق بكلية بيركلي للموسيقى في بوسطن، كأول إفريقي يفعل ذلك. درس الفيبرفون والطبول ودمج تأثيرات اللاتين جاز في موسيقاه وسجل أول ألبومين له. لكنّ عودته إلى أديس أبابا عام 1969 كانت المحطة التي صاغت صوته الفريد؛ في سنوات «أديس المتأرجحة» غيّر وجه الموسيقى المحلية، فجمع بين ما تعلّمه في بيركلي وأنغام المقامات الإثيوبية ليؤسس «هذا العلم المسمى الإثيو-جاز»، كما وصف.

لم تُستقبل أفكاره الثورية بالبداية إلا بردود فعل متخوفة وشتائم أحيانًا: «أذكرهم يقولون لي: ارحل، توقف، كفّ عن ذلك، لأنهم لا يفهمون». لكن المقاومة لم تطل ونما تأثيره سريعًا. بعد انقلاب 1974 وغزل سقوط الإمبراطور هايلي سلاسيه، هاجر كثيرون من الموسيقيين، بينما بقي مولاتو في أديس واستمر في صنع موسيقاه.

يقرأ  تحليل: مستقبل اليمن في أعقاب توسع المجلس الانتقالي الجنوبي شرقاًأخبار الصراع

مصدر إلهامه الأعمق ظلّ دائماً الموسيقيون التقليديون في بلده الذين يسميهم «علماءنا»؛ تُنسج مقطوعاته من آلاتٍ شعبية كالواشينت (الناي)، والكبيرو (الطبلة)، والماسنكّو، الكمان أحادي الوتر. يصف الماسنكّو بصوتٍ يشبه التشيللو تمامًا، ثم يطرح بسخريةٍ محبّة سؤالًا: «من جاء أولًا؟ التشيللو أم الماسنكّو؟» المشكلة — كما يقول — أننا لا نقوم بالبحوث اللازمة؛ لدينا في أفريقيا علماء عظام ومبدعون صنعوا هذه الآلات.

(ملاحظة صغيرة: ظلّ الحضور يصفه بأنه ساحر لا يُعادله أحد، وجمهو كان يغادر المكان وقد طُبع في قلبه أثرُ ذلك الوداع.) مولاتو أستاتكي — موسيقي ومنتج اثيوبي يُعَدُّ من أبرز روّاد موسيقى “الإيثيو-جاز”.
امتزجت في أعماله تقاليد إيقاعية محلية لبلاده مع تعابير الجاز واللاتين، مستخدماً الفيبرافون وترتيباتٍ أسلوبية مبتكرة.
تلقّى تعليمه الموسيقي في لندن ونيويورك، وسجّلت تسجيلاته في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بصمةً بارزة أعادت تشكيل المشهد الموسيقي الإثيوبي ولاحقاً استقطبت له اهتماماً دولياً واسعاً.

أضف تعليق