غزة ليست شذوذاً: الجوع والاحتكار أقدم أسلحة الغرب

رغم كل ادعاءات الغرب السامية بنشر الحرية والازدهار والتقدّم، يبقى العالم مغطًّا بجرحى عدم الاستقرار المزمن والجوع الجماعي. في الشهر الماضي، وفي سياق تقليص المساعدات الدولية الغذائية والطبية، قامت الولاات المتحدة بتدمير 500 طن متري من المساعدات الغذائية الطارئة في الإمارات العربية المتحدة. وما زالت أكثر من 60 ألف طن من المساعدات الغذائية الطارئة محتجزة في مخازن حول العالم نتيجة إيقاف عمل وكالة التنمية الدولية الأمريكية (يوسايد). وفي الوقت نفسه، تقوم إسرائيل—بدعم أمريكي وأوروبي—بمنع الغذاء عمداً عن ما يقرب من مليوني فلسطيني محاصرين في غزة، وهم جزء من نحو 320 مليون شخص حول العالم يعانون من سوء تغذية أو يواجهون خطر الجوع حتى الموت في عام 2025.

هذا جزء من نمط أوسع من الاحتكار والتجويع، جذوره متعمقة في منظومات رأسمالية واستيطانية غربية، جريمة ضد الإنسانية تكاد لا تواجه تبعات دولية ذات وزن. ما نراه ليس فظاعة معزولة: صعود الغرب والولايات المتحدة ارتكز على تراكم هائل لموارد الغذاء بغية الربح، وعلى استخدام التجويع كوسيلة إخضاع لمن يعيشون تحت الهيمنة.

يصعب تجاهل ذلك في تقارير الأخبار الدولية وفي منشورات وسائل التواصل الاجتماعي التي يرسلها الفلسطينيون الجائعون يائسين يطلبون مالاً وغذاءً وماءً نظيفاً، وغالباً ما يعرضون أجسادهم وأجساد أطفالهم في حالة هزال شديد. هذا ينبغي أن يثير خجلنا جميعاً، ومع ذلك التزم الغربيون وحلفاؤهم بلامبالاة تقارب التعمد في دفع نحو الإبادة، بينما الطعام المتاح على بعد كيلومترات فقط. أظهر استطلاع حديث لمركز فيتربي للعائلة لآراء الجمهور وسياسات الرأي في معهد الديمقراطية الإسرائيلي أن 79 في المئة من اليهود الإسرائيليين «ليسوا منزعجين كثيراً» أو «غير منزعجين على الإطلاق» من تقارير الجوع والمعاناة في غزة.

لكن غزة ليست الحالة الوحيدة من المجاعة كجزء من حملة إبادة، سواء في عام 2025 أو في التاريخ الحديث. ما سهُل على الغرب تجاهله طويلاً هو وجود أزمات بمستوى المجاعة في جمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان. فبحسب الأمم المتحدة، يعاني—حتى شهر مارس—رقم قياسي يقارب 27.7 مليون شخص من جوع حاد في الكونغو الديمقراطية، نتيجة صراعات مستمرة أدت إلى نزوح جماعي وارتفاع أسعار الغذاء. أما النزاع الذي استمر عامين في السودان، والذي راح ضحيته ما يُقدّر بنحو 150 ألف شخص—الكثير منهم بسبب المجاعة والمرض والجوع—فقد ترك قرابة 25 مليون شخص بحاجة لمساعدة غذائية، ومن بينهم نحو 740 ألفاً في عاصمة شمال دارفور، الفاشر، حيث يواجه السكان الموت جوعاً تحت الحصار.

يقرأ 

لا شك أن معظم القوى الكبرى عبر التاريخ استخدمت سلب الطعام والماء كأداة في حروب الغزو ونهب الموارد. لكن ما نعرفه عن الغرب الحديث هو أنه بدأ سعيه للهيمنة العالمية منذ الحروب الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر، ومعها تم تطوير أساليب الحصار وتجويع السكّان المسلمين واليهود في الأراضي المقدسة (سوريا ولبنان وفلسطين اليوم)، باسم كنيسة الكاثوليك. أولئك الصليبيون الذين جاؤوا شحت في مؤونتهم مات كثير منهم من الجوع أو اضطر بعضهم لارتكاب أعمال أكل لحوم البشر للبقاء على قيد الحياة.

إن حرمان الشعوب من الغذاء والماء كان دائماً سلاحاً سياسياً ورأسمالياً في أدوات الإمبراطورية والاستعمار والقومية الغربية. نهب أوروبا الغربية لأمريكا شكل أساس الرأسمالية والسعي غير المحدود للربح، وفي الوقت نفسه رسّخ المجاعة وسوء التغذية والحرمان كوسائل للسيطرة على الشعوب المستعمَرة واستغلالها. من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر، ساهمت تجارة العبيد عبر الأطلسي واستعباد الأفارقة والعمل القسري للسكان الأصليين في ملء خزائن الملوك الأوروبيين وبناء ثروات طائلة لمالكي الأراضي في نصف الكرة الغربي. العمال المستعبَدون والمجبرون، المحرومون من طعام وماء كافيين، عملوا في مزارع المحاصيل النقدية مثل السكر والقهوة والتبغ، أو في مناجم الذهب والفضة، وغالباً ما لقوا حتفهم جوعاً ومرضاً وسوء معاملة. تشير دراسة حديثة إلى أن ما يصل إلى 56 مليوناً من السكان الأصليين ربما ماتوا بين 1492 و1600 وحدها. وخارج حدود ما أصبح لاحقاً الولايات المتحدة، كان متوسط العمر سبع سنوات لكثيرين من 12 مليون أفريقي الذين نجوا من عبور الأطلسي ووصلوا إلى نصف الكرة الغربي.

خارج الأمريكتين أيضاً، مات نحو عشرة ملايين إنسان جوعاً أثناء مجاعة البنغال الكبرى في سبعينيات القرن الثامن عشر لأن شركة الهند الشرقية فضّلت جمع الحبوب لموانئ أوروبا وفرض ضرائب عقابية على الفلاحين الجنوب آسيويين بدلاً من أن تنقذ الأرواح. تلك المجاعة، مثل غيرها تحت الحكم الاستعماري، لم تكن حادثة طبيعية بل نتاج سياسات اقتصادية متعمدة تعاملت مع الإنسان كتكلفة يمكن التضحية بها. وبين 1904 و1908، في ما يعرف اليوم بناميبيا وتنزانيا، قام الألمان الحاكمون «بقتل أو تجويع» ما يقرب من 60 ألف هريرو و10 آلاف ناما في ناميبيا، بالإضافة إلى مئات الآلاف من شعوب أخرى في قمع الانتفاضات الاستعمارية.

يقرأ  ابن يخبر «بي بي سي»: والده الأفغاني، الذي تسرّبت بياناته في بريطانيا، معرض لخطر طالبان إذا رُحّل

قد تفسر آثار المجاعة والطاعون الدبلي في أوروبا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر جزءاً من ميل الغرب إلى التوسع الاستعماري وتسليح الغذاء وحرمانه كعقاب. كما أظهرت نتائج تجربة مينيسوتا للمجاعة عامي 1944–45 على 36 رجلاً أبيض أن المشاركين «كانوا يحلمون ويتخيلون الطعام» وأبلغوا عن تعب وتهيج ولا مبالاة، مع زيادات ملحوظة في الاكتئاب والهستيريا والهيبوكوندريا. تصوّر الأثر النفسي لأجيال من انعدام الأمن الغذائي والجوع عبر حضارة بأكملها، خصوصاً حضارة اعتبرت نفسها متفوقة دينياً وأخلاقياً بفضل المسيحية. لقد ظل الغرب ثابتاً في إنكاره للحق الإنساني الأساسي في الأكل.

فيما يخص الولايات المتحدة، الأمة التي بدأت كمستعمرة جامستاون عام 1607، استمر خطاب جون سميث لأربعمئة عام: «غالبية الناس يجب أن تكون أكثر شغلًا وإلا تموت جوعاً. من لا يعمل لا يأكل.» تاريخ أمريكا الاستعماري وما تلاه من توسع بعد الاستقلال شمل أيضاً سرقة أراضي السكان الأصليين، حرق المحاصيل، وإحداث مجاعات وانحدار سكاني هائل للسكان الأصليين. وفرة المحاصيل النقدية مثل التبغ والنيلي والأرز والسكر والقطن تركت أرضاً قليلة للمستعبدِين السود لزراعة طعامهم. وكثيراً ما كان العبيد يُمنحون حصصاً هزيلة مثل دقيق الذرة وشرائح لحم مملّحة لا تكفي للحفاظ على الحياة.

حتى عندما تحولت الولايات المتحدة إلى قوة زراعية هائلة، ظل لحن «اعمل أو مت» هو نفسه، مع رسالة طبقية وعنصرية تتغير أدوارها مع الزمن. على مدار الأربعين عاماً الماضية نفّذ رؤساء وكونغرس الولايات المتحدة قوانين تتطلب من الفقراء العمل مقابل فوائد غذائية طفيفة أو الحرمان منها، بما في ذلك متطلبات عمل جديدة لمزايا برنامج «سناب» (قسائم الطعام) التي أقرّها ما عُرف بـ«قانون واحد كبير جميل» في وقت سابق من هذا العام. وفي 2015، لخص زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ آنذاك ميتش ماكونيل تفكير قادة الأعمال الأمريكيين والعالم الغربي تجاه من يعانون انعدام الأمن الغذائي بقوله: «إنهم يستفيدون كثيراً جداً من قسائم الطعام والضمان الاجتماعي وكل ذلك.»

يقرأ  باريس سان جيرمان يفوز على توتنهام بركلات الترجيح ويتوّج بلقب السوبر الأوروبيأخبار كرة القدم

أشهدُ بنفسي على أثر سوء التغذية والعمل فقط لتأمين لقمة العيش. من نهاية 1981 حتى ذهابي إلى الجامعة عام 1987، كانت ثلث كل شهر في منزلنا في ماونت فيرنون، نيويورك، تمضيه معدتي فارغة أو شبه فارغة، غالباً مع آلام غازات معوية شديدة. لم يكن يغيّر الوضع أن والدتي كانت تعمل بدوام كامل في مستشفى ماونت فيرنون أو أنها كانت تعتمد على نظام الرفاه الأمريكي للحصول على مساعدات غذائية. في إحدى الفترات، هبط وزني من 83 إلى 76 كيلوغراماً على قامتي البالغة 188 سنتيمتراً خلال 18 يوماً بعد إنهاء درجتي الجامعية، بينما كنت أعمل في معهد ويسترن للطب النفسي ومصحة بيتس عام 1991. كنت أمشي خمسة كيلومترات ذهاباً وإياباً للعمل تلك الأسابيع الثلاثة لأن معي فقط 30 دولاراً. كانت تخيلات احتكار الغذاء والتحكم في الموارد جزءاً حقيقياً من تجربتي مع الجوع المعتدل وسوء التغذية.

اليوم تنتج الولايات المتحدة طعاماً يكفي لإطعام أكثر من ملياري شخص، والعالم ينتج طعاماً يكفي أكثر من عشرة مليارات سنوياً. ومع ذلك، فإن سعي أرباح شركات الزراعة والأسواق، واستمرار حرمان الفئات الضعيفة والمهمشة من الغذاء عمداً—كل ذلك لإخضاعهم لأجل أراضيهم ومواردهم وحتى ما يزرعونه—يبقى سائداً إلى حد كبير دون رادع. الجوع ما زال أحد أكثر أسلحة الغرب ثباتاً في التحكم والهيمنة. جيوسياسياً، لا يمكن أن يكون هناك سلام حقيقي في عالم ملأه من ساعد الغرب عمداً على تجويعهم.

المواقف المعبر عنها هنا تخص الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

أضف تعليق