العنف الكارثي في غزة انكشف داخل منظومة دولية لم تُصمَّم قطَّ لكبح طموحات الدول القوية. لفهم سبب عجز الأمم المتحدة عن الاستجابة لما يعتبره كثيرون هجومًا إباديًا، لا بد من العودة إلى قواعد النظام الدولي الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية، وفحص كيفية قيام هياكله على تمكين الإفلات من العقاب بدل تعزيز المساءلة.
بعد الحرب العالمية الثانية تبلورت هندسة نظام دولي جديد يستند إلى ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي كقاعدة معيارية لسلم مستدام، وكان هدفه الأبرز إحباط اندلاع حرب عالمية ثالثة. هذه الالتزامات ولدت من ركام الصراع الشامل، ومن قسوة المجزرة النازية على كرامة الإنسان، ومن مخاوف عامة بشأن السلاح النووي. لكن الضرورة السياسية لمراعاة الدول المنتصرة أضعفت هذه الترتيبات منذ البداية. فقد طُوّع الخلاف حول أولويات النظام العالمي بمنح مجلس الأمن سلطة قرار حصرية والحدّ أكثر فأكثر من استقلالية المنظمة. خمس دول أصبحت أعضاء دائمين مع حق النقض: الولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي، فرنسا، المملكة المتحدة، والصين.
على أرض الواقع سلّمت إدارة الأمن العالمي إلى هذه الدول، محافظًة على هيمنتها ومفسِحة المجال لاستثناء المصالح الاستراتيجية عن أي إلزام قانوني، ما أضعف قدرة الأمم المتحدة تدريجيًا. وكان للاتحاد السوفيتي مبرر في مقاومة أغلبية تصويتية غربية، لكنه استعمل الفيتو بدوره بطريقة عملية وأبدى تجاهلًا للقانون الدولي وحقوق الإنسان، كما فعلت ثلاث ديمقراطيات ليبرالية أخرى. في عام 1945 كانت هذه الحكومات تُرى ببساطة كحاملة لحرية المناورة التقليدية لما يُعرف بقوى كبرى. بريطانيا وفرنسا، كقائديْن في حلف الأطلسي ضمن محفل أورو-أمريكي، فسّرت المستقبل عبر عدسة صراع متصاعد مع الاتحاد السوفييتي، بينما كانت الصين منشغلة بحرب أهلية استمرّت حتى 1949.
ثلاثة أبعاد في ترتيب ما بعد الحرب تشكل فهمنا الراهن. أولًا البُعد التاريخي: الدرس المستفاد من إخفاق عصبة الأمم حيث أدى غياب الدول المؤثرة إلى تقويض صلاحية المنظمة في شؤون الحرب والسلام، فاعتُبر من الأفضل في 1945 الاعتراف بتفاوتات القوة داخل هيئة عالمية بدل بناء مؤسسة عالمية على أساس مساواة ديمقراطية صافية بين الدول أو على حجم السكان. ثانيًا البُعد الأيديولوجي: قادة الدول الأكثر ثراءً وقوة وضعوا ثقتهم أكبر في المنطق القائم على القوة الصلبة منه في قانونية القوة الناعمة؛ حتى السلاح النووي وُظف في إطار الردع لا في سبيل الالتزام بالمادة السادسة من معاهدة عدم الانتشار، التي تنص على السعي بحسن نية نحو نزع السلاح. عندما تعارضت المصالح الجيوسياسية مع القانون الدولي، وُضع القانون جانبًا. ثالثًا البُعد الاقتصادي: ربحية سباقات التسلح والحروب أعادت إنتاج نمط ما قبل الحرب العالمية الثانية من سياسة عالمية شبه خارجة عن القانون، مدعومة بتحالف من واقعية جيوسياسية وإعلام شركاتي وعسكرة القطاع الخاص.
لماذا لم تستطع الامم المتحدة حماية غزة
في ضوء هذا السياق، ليس من المستغرب أن أدَّت الأمم المتحدة أداءً مخيبًا خلال أكثر من عامين من الهجوم الذي وُصِف بالإبادي على غزة. إلى جانب ذلك، فعلت المنظمة إلى حدّ كبير ما وُجّهت لتفعله بعد 7 أكتوبر، ولا يمكن لتلك الحدود الهيكلية أن تتبدل إلا بإصلاحات جذرية تقودها دول الجنوب العالمي والمجتمع المدني العابر للقوميات. ما يجعل ما جرى مفزعًا هو درجة تجاهل إسرائيل للقانون الدولي والميثاق وحتى لأسس الأخلاق العامة.
مع ذلك، تصرّ الأمم المتحدة على أنها أسهمت بصورة أعمق مما يُعترف به كثيرًا في كشف انتهاكات إسرائيل الصارخة لحقوق الإنسان والقانون الدولي. لكنّها قصرت عن بلوغ أقصى ما يسمح به القانون، خاصة حين أخفقت الجمعية العامة في تفعيل طاقتها الذاتية من خلال قرار “التّوحُّد من أجل السلام” أو تبني معيار “مسؤولية الحماية” بما يوجب تحرّكًا فعّالًا.
من أبرز مساهمات المنظمة كانت النتائج القضائية شبه الإجماعية في محكمة العدل الدولية بشأن قضايا الإبادة والاحتلال. في ما يخص الإبادة، استجابت المحكمة لطلب جنوب أفريقيا وأصدرت تدابير احترازية بشأن العنف الإبادِي وعرقلة المساعدات الإنسانية في غزة، على أن يُحسم القرار النهائي بعد مرافعات إضافية عام 2026. أما بشأن مسألة الاحتلال، فعلى ضوء طلب توضيح من الجمعية العامة أصدرت المحكمة استشارة تاريخية في 19 يوليو 2024 رأت فيها أن إسرائيل انتهكت التزاماتها الجسيمة بموجب القانون الإنساني الدولي في إدارة غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وأمرت بالانسحاب خلال سنة. مؤكّدة الجمعية العامة هذه الرأي بأغلبية كبيرة.
ردّت إسرائيل برفض أو تجاهل سلطة المحكمة، وساندها الادعاء الاستثنائي من الحكومة الأمريكية بأن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية لا يتمتع بجدية قانونية. في المقابل، وفّرت الأمم المتحدة تغطية معلوماتية موثوقة عن مجريات ما يجري في غزة تفوق ما بثته وسائل الإعلام الشركاتية التي مالت إلى تضخيم مبررات إسرائيل وكبت وجهات النظر الفلسطينية. ولمن كان يبحث عن تحليل موثوق لادعاءات الإبادة، قدّم مجلس حقوق الإنسان أبرز رداً مضادًا للتشويهات المؤيدة لإسرائيل. تقرير بعنوان “سينبثق قمر من هذا الظلام” الذي جمع تقارير المقررة الخاصة فرانسيسكا ألبانيز، يوثّق ويدعم بوضوح نتائج تعلّق بالإبادة.
مساهمة أخرى لم تُنَلَّ قدرها أتت من الأونروا، وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، التي كانت خدماتها حيوية لسكان مدنيين يواجهون عدم أمان حادًا ودمارًا وجوعًا وأمراضًا وتكتيكات قتال قاسية. استُشهد نحو 281 من موظفيها أثناء تقديمهم الملاذ والتعليم والرعاية الصحية والدعم النفسي للفلسطينيين المُحاصرين خلال عمليّات إسرائيل على مدى العامين الماضيين. بدلاً من أن تنال الأونروا الثناء، تعرّضت لاتهامات متهوّرة من إسرائيل بزعم مشاركة موظفين في هجوم 7 أكتوبر بلا أدلة مقنعة، وعمّقت الديمقراطيات الليبرالية المشكلة بقطع التمويل، فيما منعت إسرائيل دخول موظفين دوليين إلى غزة. ومع ذلك استمرت الأونروا بشجاعة في تقديم المساعدات قدر الإمكان.
في ضوء هذه الإخفاقات الجزئية والنجاحات المحدودة تنبني انعكاسات أشدّ على حوكمة العالم، معدّة الأرض لتحليل أوسع عن الشرعية والمساءلة.
التكاليف الأخلاقية والسياسية لشلل الأمم المتحدة
لا بد من قراءة ما سبق في ضوء المحنة الفلسطينية المستمرة، التي لم تتوقف رغم الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، وأسفرت عن أكثر من 350 وفاة فلسطينية منذ الاتفاق على وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر 2025. يبدو أن القانون الدولي لا يُغيّر مباشرة سلوك الجهات الحكومية الأساسية، لكنه يؤثر في تقييمات الشرعية. من هذه الزاوية، كان لنتائج محكمة العدل وتقارير المقررة الخاصة أثر غير مباشر في إضفاء شرعية على أشكال من النشاط المدني الداعم لسلام عادل قائم على تحقيق الحقوق الفلسطينية الأساسية، وفي مقدمتها الحق غير القابل للتصرف في تقرير المصير.
استبعاد المشاركة الفلسطينية من خطة ترامب المفروضة لتشكيل المستقبل السياسي لغزة يدل على تمسّك الديمقراطيات الليبرالية بمواقفها المتواطئة مع إسرائيل. وإقرار مجلس الأمن بالإجماع للقرار رقم 2803 الذي يحظى بتبنٍ غير مقبول لخطة ترامب يضع الأمم المتحدة بالكامل إلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، ما يمثل تهرّبًا من مهامها في قول الحقيقة ويمثّل سابقة خطيرة لعملية إنفاذ القانون الدولي ومساءلة مرتكبي الجرائم الدولية. هذا التوجه يعمّق أزمة الثقة في حوكمة العالم ويؤكد ضرورة إصلاحات جوهرية في الأمم المتحدة إذا ما قصدنا تحقيق سلام عادل وحقيقي.
الآراء الواردة هنا تعكس رأي المؤلّف ولا تعبّر بالضرورة عن الموقف التحريري لقناة الجزيرة.