مراسل في باريز ــ أندرو هاردينغ
يبدو أن رئيس الوزراء فرانسوا بايرو (74 عاماً) على طريق الانفصال عن منصبه بعدما بادر هو نفسه بدعوة البرلمان للتصويت على منح الثقة له، في محاولة وصفها بالمفاجِئة لصدمة الساحة السياسية وإقحام النواب في حلّ لمأزق ديونٍ متصاعد.
البرلمان الفرنسي، المشلول منذ أكثر من عام وبمستوى استقطاب سياسي لم يُشهد منذ عقود، يتهيأ على ما يبدو لإسقاط رئيس وزراء آخر يوم الاثنين. ومع ذلك، فإن حدة الدراما المصاحبة لهذا التصويت تتعارض مع إجماع مأزوم يرى أن الإطاحة المحتملة ببايرو بعد تسعة أشهر من ولايته «القليلة الفعالية» لن تكسر الجمود السياسي القائم.
الصحافي السياسي المخضرم برونو كوترِس وصف الوضع بأنه كارثي ومشلول تماماً، بينما لم تتوانَ مارين لوبان، زعيمة كتلة التجمع الوطني اليميني المتشدد في البرلمان، عن اتهام بايرو بأنه ارتكب «انتحاراً سياسياً». والواقع أن بايرو، الرجل المعتدل الذي يسعى غالباً إلى توافق آراء ويشتهر بتعبير وجهٍ عابس وطابعٍ متفجّر أحياناً، برّر مبادرته بأنها محاولة لصدمةٍ تدفع الطبقة السياسية إلى الاتفاق على سبل مواجهة أزمة الديون القادمة.
بايرو شدّد على أن فرنسا تعيش «مرحلة خطيرة جداً… زمن تردّد واضطراب»، محذراً من «خطر مرتفع للفوضى والاضطراب» إذا فشل البرلمان في دعم ميزانيته التقشفية التي تهدف إلى تقليص الإنفاق الحكومي بمقدار 44 مليار يورو. وأوضح أن الشباب سيُثقلون بعقود من سداد الديون «من أجل راحة جيل الطفرة» إذا لم يتم احتواء دينٍ عام يبلغ نحو 114% من الناتج المحلي الإجمالي.
المراهنة التي قام بها بايرو وُصفت متبايناً بين إيماءة تحررية «كامكازية» وتنبؤ كاساندري لا جدوى منه ومحاولة لختام مشواره السياسي بفعل بطولي من التضحية الذاتية؛ لكن التوقعات ترجح فشلاً حتمياً، إذ يبدو واضحاً، رغم مشاورات اللحظات الأخيرة، أن بايرو يفتقر إلى الأصوات المطلوبة.
في صلب هذه «الأزمة» — كلمة استحوذت طوال العام على عناوين الصحف الفرنسية — قرار الرئيس إيمانويل ماكرون المثير للجدل في يونيو 2024 بالدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة بغية «توضيح» توازن القوى داخل البرلمان. النتيجة أتت عكس هذا الهدف: الناخبون الفرنسيون، المستاؤون من رئيس شابٍ متحدث واثق، مالوا صوب الأطراف؛ ما ترك ماكرون بحكومة وسطية أقلية مُنهكة وبرلماناً منقسمًا إلى حد أن كثيرين من النواب المتخاصمين لا يتحمّلون حتى مصافحة بعضهم البعض.
تظهر استطلاعات الرأي أن شعبية ماكرون عند أدنى مستوياتها منذ وصوله إلى سدة الحكم في 2017. فما الذي ينتظر البلاد؟
بعيداً عن صراعات البرلمان على ضفاف السين، تبدو المزاجات الشعبية في انزياح نحو اليمين واليمين المتطرف. في معرض زراعي كبير في شارلون-آن-شامبان، شرق العاصمة، احتشد مئات حول جوردان بارديلا، الشاب البالغ 29 عاماً وزعيم التجمع الوطني، مرددين اسمه ومحرّكين حماسة جماهيرية: «جوردان، جوردان».
طوال ساعة تقريباً، شقّ باردِلا طريقه ببطء بين الحشود لتبادل صور السيلفي وتحيات المؤيدين؛ مواقفٌ ببساطة شعبيّة: «يبدو رجلاً طيباً، يمكن أن تشرب معه كأساً. فرنسا تعاني. نتحمّل ضرائب كثيرة ولا نفهم كيفية إنفاقها، والأسعار تستمر في الارتفاع» قال كريستيان ماجري، مبرمج حاسوب في الرابعة والأربعين من عمره. وأخرى قالت كريستين: «[بارديلا] سيعيد تشكيل بلادنا. لست عنصرية، لكننا في فرنسا لدينا بالفعل كثير من الناس ينتظرون السكن ولا نستطيع حمل بائعي البؤس من العالم»، بينما أضافت نادين، 61 عاماً: «هو وسيم وأفكاره جيدة. هناك عدد كبير جداً من المهاجرين القادمين. السيد باردِلا… يريد أن يضع الفرنسيين في المقام الأول».
حين تمكنت من الوصول إلى باردِلا وسط الزحام، سألته عما إذا كان يعتقد أن هزيمة محتملة لبايو من شأنها أن تفضي إلى انتخابات مبكرة قد تُمكّنه من الوصول إلى رئاسة الحكومة. أجاب: «نعمل على ذلك. هذا البلد معطّل منذ أكثر من سنة. خطير أن تترك فرنسا تتيه بهذا الشكل وأن تتيح لأولئك الذين تربعوا على السلطة لعقود أن يدمروا البلد. نريد وقف الهجرة الجماعية. إذا وصلنا إلى السلطة غداً فسننظم استفتاءً حول مسألة الهجرة».
قليلون يتوقعون أن يدعو ماكرون إلى انتخابات مبكرة أخرى أو أن يتنحى قبل انتهاء ولايته في 2027. المرجح أكثر هو محاولة جديدة لإيجاد سبيل نحو حكومة أقلية فاعلة؛ وبعد محاولات متكررة لتكوين اتفاقات مع اليمين، يتساءل البعض عما إذا كان ماكرون قد يحاول نهجاً جديداً.
النائب الاشتراكي آرثر ديلابور قال: «نعتقد أن الوقت قد حان لأن يمنح الرئيس تجربةً لليسار لأننا سنعتمد منهجاً مختلفاً. سنحاول الوصول إلى تسويات. اقترحنا ميزانية تضمن مدخرات وفي الوقت نفسه استثمارات للمستقبل وللتحوّل الأخضر… مع فرض ضرائب على الأغنى من أصحاب الثروات».
بينما تستمر التكهنات بشأن من قد يختاره ماكرون رئيساً للوزراء المقبل، ثمة تحديات أخرى تحوم بالأفق: تزايد التركيز على احتمال حركة صناعية واسعة النطاق في الأسابيع المقبلة وموجة احتجاجات شعبية في الشارع. حركة قاعدية ناشئة، تحت عنوان «لنوقف كل شيء»، نشطة على وسائل التواصل وتدعو إلى شلّ فرنسا يوم الأربعاء المقبل.
برونو كوترِس حذّر قائلاً إن هناك «فقاعة من الاستياء» في البلاد، محذراً ماكرون من أن نشاطه الدولي المكثف خلال الأسابيع الماضية، خصوصاً فيما يتعلق بأوكرانيا، لم يعد كافياً لتهدئة الغليان الداخلي. أعتقد أن الوقت قد حان لأن يخاطب ماكرون الشعب الفرنسي.
فمستوى الغضب والاحباط والتوترات بات عالياً للغاية.