غرقت شرايين الحياة المتبقية في غزة بالدماء مرة أخرى يوم الإثنين. استُهدفت مجمّع الناصر الطبي بقذائف إسرائيلية في مدينة خان يونس، التي تعجّ بالفعل بجراحى الحرب، ما أودى بحياة ما لا يقلّ عن 19 فلسطينياً، من بينهم خمسة صحيفيين وعناصر طوارئ متعددة. لم يكن هذا مجرد «حادث» في سجلات الحرب؛ بل اعتداء على قدسية الحياة الإنسانية، وعلى ملاذات الطبّ، وعلى مفهوم الحقيقة نفسها.
اغتيال الصحفيين في وضح النهار
بين القتلى كان مصوّر رويترز حسّام المصري، ومصوّر الجزيرة محمد سلامة، والصحفية الحرة مريم أبو دقّة، ومساهم شبكة NBC معاذ أبو طه، وأحمد أبو عزيز. انقطع بث حسّام المصري المباشر في منتصفه قبل ثوانٍ من إصابة المستشفى بالصواريخ الإسرائيلية. بينما كانت الزملاء تسارع لإنقاذ الأرواح، جاء الهجوم الثاني، ما يُعرف بلغة الجهات المسؤولة بـ«الضربة المزدوجة»، ليقضي عليهم أيضاً. لم تكن هذه أضراراً جانبية؛ بل قتلٌ بدم بارد انتقاماً من من يبلّغون الحقائق.
قالت نقابة الصحفيين الفلسطينيين صراحة: إنه «حرب مفتوحة على الإعلام الحر» تهدف إلى ترهيب الصحفيين وإسكاتهم ومنعهم من كشف الجرائم للعالم.
تحوّل غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى مقبرة للعاملين في الإعلام: أكثر من 250 من العاملين في وسائل الإعلام قُتلوا منذ ذلك التاريخ. لم تعد مهمة العمل الإعلامي في غزة مجرد مخاطرة قصوى، بل أصبحت مقبرة راويات الحقيقة.
المستشفيات تحت الحصار
استهدف القصف أحد القلائل من المراكز الطبية العاملة في غزة. كان مستشفى الناصر ممتلئاً حتى طاقته القصوى في ظلّ أوضاع كارثية في الأدوية والكهرباء والإمدادات. كان بين القتلى طواقم الإسعاف وأفراد الدفاع المدني — أولئك الذين تكلفهم مهمتهم نقل الجثث المتناثرة من تحت الأنقاض — أثناء محاولتهم إخراج الجرحى.
لنقف على حقيقة لا تحتمل التأويل: مرضى وصحفيون وكادر طبي تعرّضوا لهجوم داخل منشأة طبية محمية بموجب القانون الدولي. إسرائيل فجّرت البنية الصحية في غزة مرة أخرى حتى صارت أشلاءً. وكانت الأمم المتحدة قد حذّرت بالفعل من أن البنية الطبية في غزة على حافة الانهيار التام؛ ودفع مجزرة يوم الإثنين هذا الانهيار أقرب إلى الحدوث.
صمت إسرائيل
لا شيء من مكتب رئيس الوزراء أو من الجيش الإسرائيلي: لا تفسير، ولا اعتذار، مجرد صمت، كما لو أن حياة عشرات البشر شيء سهل التهوين منه. بينما تتوسّل وسائل الإعلام الأجنبية، التي تعرّض مراسلوها للهجوم والاغتيال، لأبسط رعاية طبية لمن بقي منهم على قيد الحياة، تقول رويترز إنها «صدمت بشدّة» لكنها تواصل «البحث اليائس عن السلطات الحكومية» لطلب المساعدة. دعونا نكون صريحين: هذا الامتناع عن المحاسبة يعني الإفلات من العقاب.
الثمن البشري
تُفيد وزارة الصحة بأن أكثر من 62,686 فلسطينياً قتلوا منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر، وآلافٌ منهم ما زالوا تحت الأنقاض. إن قتل الصحفيين، الذين يخاطرون بكل شيء ليبنوا رواية الحقيقة، يحمل دلالة أعمق: الجرائم تبقى غير مُبلغ عنها بلا صحفيين، وآلة الحرب تعمل في سوق سوداء بلا رقيب.
ليست مسألة مجرد تصفية شاهد، بل قتل لضمان عدم وجود وسيلة برهانٍ تثبت الجريمة.
كفى
كل هجوم على مستشفى، وكل قصف لمُسعف، وكل اغتيال متعمّد لصحفي يعلن حقيقة لا تقبل الجدل: حياة الإنسان الغزّي لا قيمة لها. القانون الدولي واتفاقيات جنيف وقواعد «قوانين الحرب» تصبح معطلة حين تُقصف مستشفيات مكتظّة بالمدنيين. إذا ظلّ العالم يراقب احتراق مستشفى الناصر ووجود مرضى وأطباء وصحفيين ومنقذين محاصرين تحت ركامه، ولا يفعل شيئاً، فنحن شركاء بصمتنا. الصمت خيار — وفي هذه اللحظة يكلف أرواحاً.
نُشر هذا التحليل أولاً على موقع Where Is The Buzz.