كيف أسهمت الانتفاضة الثانية في بناء أسوارٍ انهارت في ٧ أكتوبر

زيارة أريئل شارون للحرم الشريف كانت شرارة الانتفاضة الثانية، وأعادت تشكيل واقع الأمن في اسرائيل ومهدت الطريق لأحداث 7 أكتوبر.

مرَّ ربع قرن على زيارة شارون — زعيم المعارضة آنذاك — إلى الحرم الشريف في القدس، زيارة أدّت إلى أعمال شغب وُصفت غالبًا بأنها الشرارة الرئيسة للانتفاضة الثانية.

اليوم نعلم أن قرار إطلاق الانتفاضة الثانية نَبَتَ من قرارات أوسع لدى مجموعات فلسطينية مسلحة؛ فقد استُخدمت الزيارة ذريعة لتفعيل خطة كانت قيد الإعداد.

من المفيد التذكّر كم تغيّر المشهد منذ ذلك الحين. ففي عام 2000، وفي خضم التحضير لتلك الزيارة، كان الحديث ما يزال يدور عن إمكانية متابعة طريق السلام مع الفلسطينيين.

اتفاقيات أوسلو في 1993 وأوسلو الثانية في 1995 واجهتا تحديات كبرى: هجمات حماس وتفجيراتها من جهة، ومعارضة داخل اليمين الإسرائيلي الذي كان يرفض إقامة دولة فلسطينية من جهة أخرى.

جعل انهيار الحرب الباردة عملية السلام ممكنة في جزء منها؛ فقد كانت فترة تسارعت فيها مسارات السلام والتحوّل نحو الديمقراطية في أنحاء العالم.

بانتهاء الاتحاد السوفيتي، تقلصت مصادر الدعم لحركات مسلحة متطرِّفة عديدة كانت تتبنى خطاب “الكفاح المسلح”، ومن ضمنها بعض التشكيلات الفلسطينية.

من خلال منظمة التحرير وخطّة ياسر عرفات الوطنية، تشكّلت الأطر التي أدت إلى اتفاقيات أوسلو بعد سنوات من العنف والإرهاب.

كثيرون اعتبروا أن ما حدث كان طبيعياً في سياق عالمي أوسع؛ فالـIRA في أيرلندا الشمالية كانت تتجه نحو التسوية، وجنوب أفريقيا كانت تنتقل إلى نظام ديمقراطي.

سردوا لأنفسهم قصة مفادها أن المتطرّفين سيبقون أقلية، وأن الوسطاء والمنؤولين المعتدلين سينتصرون في النهاية.

القصد كان أن يماثل مصير اليمين المتطرّف في إسرائيل مصير بعض عناصر الأفريكانرز في حقبة البوثوتسوانا؛ محاولة يائسة لوقف التحوّل الديمقراطي انتهت بفشل الجماعات المسلحة.

يقرأ  حزب الحدش يساند مسيرة شعبية كبرى في تل أبيب احتجاجًا على تجويع قطاع غزة

مرةً بدا أن عملية أوسلو ستسفر عن بعض لحظات عنف معزولة، لكنها لن تهدّد الجوهر العام للمسار. لكن الواقع جاء مخالفًا.

حماس، التي تشكلت في الثمانينات وانبنت على خلاصة جماعة الإخوان المسلمين، عملت على تقويض مسار السلام واستنزافه.

على الجانب الإسرائيلي، ظن اليمين أن البلاد تسير نحو فخّ، وكان ما توقعه هو ما حدث بالفعل: انهيار تدريجي لآفاق التسوية.

السلطة الفلسطينية لم تنجح في بناء دولة ناشئة تدفع باتجاه السلام؛ بل اعتقدت جماعات فلسطينية كثيرة أنه بالإمكان إجبار اسرائيل على الانسحاب من غزة والضفة بقوة السلاح، كما ظنّوا بعد انسحاب اسرائيل من لبنان في مايو 2000.

مع اندلاع القتل، قُتل نحو 200 إسرائيلي و469 فلسطينيًا عام 2001. وانتشرت حوادث التفجير، وفي مارس 2002 أدى تفجير انتحاري في فندق بارك في نتانيا إلى مقتل 30 شخصًا.

بعد عودة شارون إلى رئاسة الحكومة وانتظار دام سنة، أطلق عملية “الدفاع الدرع” لاستعادة السيطرة على أجزاء من المدن الفلسطينية التي كانت تحت إدارة السلطة.

دارت معارك ضارية، لا سيما في جنين، وتعرّضت اسرائيل لانتقادات دولية واسعة بعد دخول دباباتها إلى بيت لحم ورام الله ومدن أخرى.

تلاشت آمال قيام دولة فلسطينية: مطار غزة دُمّر، وقتلى كُثر في كلا الجانبين، وانهار الكثير من المشروع السياسي.

على الساحة الدولية صوِّر شارون آنذاك كفاعل عنيف، وما دار بشأن مجزرة صبرا وشاتيلا أو أعداد القتلى في جنين كان جزءًا من رواية مفادها أن اسرائيل ترتكب مجازر بحق الفلسطينيين.

إجمالي الخسائر البشرية في الانتفاضة الثانية كان كبيرًا: آلاف الفلسطينيين وأكثر من ألف إسرائيلي قُتلوا بين 2000 و2004.

مقاييس ذلك الوقت تبدو اليوم صغيرة أمام كوارث 7 أكتوبر والحرب التي تلتها. أكثر من 900 جندي قُتلوا، وإلى جانب ذلك أكثر من 1000 مدني إسرائيلي، ونحو 60 ألفًا من سكان غزا بين قتيل وجريح ومصاب — من بينهم عناصر حماس ومدنيون.

يقرأ  جدل في ألمانيا بشأن حكم بالسجن على متطرف يميني متحوّل جنسياً

قتل يوم واحد أعدادًا تفوق ما سقط خلال أربع سنوات من الانتفاضة الثانية، وهذا يبيّن حجم الفاجعة واستمرار آثارها بعد وقوعها. حتى في نزاع مع إيران امتدّ 12 يومًا قُتل 31 إسرائيليًا، لكن الموت بدا في إسرائيل عاديًا بسبب تكراره.

حين قُتل عدد مماثل من الإسرائيليين في أوائل الألفية، أدّى ذلك إلى عملية الدفاع الدرع؛ اليوم تعتبر تلك الخسائر تضحيات اعتيادية ضمن دائرة العنف المستمرة.

الانتفاضة الثانية كانت قطيعة مع الماضي: أضعاف عنف الانتفاضة الأولى، أدت إلى بناء جدار الفصل وعمق الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الضفة.

دفنت الانتفاضة الثانية أي أمل حقيقي في التعايش، وفرضت منطق الانفصال كخيار وحيد؛ نما الجدار، وغادرت اسرائيل قطاع غزة في 2005.

كما نعلم، استحوذت حماس على غزة عام 2007. الانتخابات الفلسطينية لم تثمر ديمقراطية وطنية متماسكة، بل كرّست قيادة فتح القديمة بأقاليمها البيروقراطية الفاسدة التي لم تعد تُقدّم للمواطن الفلسطيني سوى الفشل والفساد، فيما وعدت حماس بالحرب.

من عام 2005 وحتى 7 أكتوبر ساد وضع اعتيادي: اسرائيل تدير الصراع بسياسة “قصّ العشب” عبر غارات متقطعة في الضفة وتصعيدات في غزة.

اتسمت إسرائيل بعد ذلك بالغرور والارتكان خلف جدران محمية بمنظومة القبة الحديدية وتقنيات عسكرية متقدمة.

مثل الفرنسيين عام 1940 أو الأمريكيين قبل هجوم تيت أو كوستر المنقود إلى ليتل بيغهورن، ظنّت اسرائيل أن الأمور تحت السيطرة.

لكن مجزرة 7 أكتوبر أغلقت الباب على ما كان منتهياً بالانتفاضة الثانية. الدرس المستفاد من “الدفاع الدرع” كان أن الدبابات والقوة قادرة على قمع التمرّد — درس تُرك مرمياً واستبدل بمزج من التكنولوجيا والغرور.

ثم، بعد أكثر من ألف قتيل و250 رهينة — وجُرّت يهود وكأنها مذابح كيشينيف في أواخر القرن التاسع عشر — دخلت اسرائيل غزة مجدداً.

يقرأ  كلمات «حليب وأخطبوط ووحي» تتصدر تريند جوجل.. فما السبب وهل يمكن جمعها؟

يمكن القول إن الانتفاضة الثانية، مهما كبدت اسرائيل خسائر جسيمة، لم تضعها يومًا في حالة الضعف الذي حل بها في 7 أكتوبر 2023. الحرب على غزة التي تلاها أظهرت دمارًا واسعًا وبدت مختلفة عن “الدفاع الدرع” بفعل طبيعة الردّ والنتائج.

على عكس الانتفاضة الثانية، سمحت اسرائيل لأعدائها على جبهات متعددة أن يكتسبوا قوة مفرطة بعد 2005.

الكثير من المسلّمات التي ورَّثها قادتها في تسعينات القرن الماضي وأوائل الألفية قد تُركت جانبًا اليوم، واسرائيل تبحث عن عقيدة جديدة للتعامل مع واقع متغير ومعقّد.

أضف تعليق