لم تنتهِ حرب إسرائيل على غزة بانسحاب دباباتها أو بسكون طائراتها الحربية. عشرات الآلاف قضوا، ومئات الآلاف من المنازل تحولت إلى ركام، وحوالي مليوني شخص طُردوا من بيوتهم. ومع ذلك، قد يكون الخطر الأعظم ما يزال أمامنا، إذ تسعى إسرائيل إلى مواصلة الحرب بصورة أخرى لا تتطلب وجود جيشها المباشر — اصبح الصراع يتحوّل إلى وسيلة غير تقليدية للاستمرار في الهيمنة.
في الفراغ الذي خلّفه الدمار تتشكل واقع قاتم جديد. جماعات مسلحة تنبثق وتستغل انهيار النظام الاجتماعي وتفاقم معاناة الناس. تلك المجموعات التي طالما تبنّت لقب «المقاومة» باتت توجّه أسلحتها نحو الداخل. بدل أن تبذل جهودها للدفاع عن الوطن، تسعى لفرض سيطرتها بعنف، محوّلة ألم الفلسطينيين إلى عملة للمصالح الحزبية والسياسية. غزة، التي عاش أهلها طويلاً تحت الحصار وخلاله محمية نسبياً داخل أسوارها، لم تكن تخشى عصابات أو مسدس جارها بقدر خوفها من الغارات الإسرائيلية. اليوم، يضاعف الخوف نفسه، من الخارج ومن داخل الداخل.
جريمة قتل الصحفي صالح الجعفراوي في حي الصبرة بغزة تمثل من أخطر دلائل هذا التحوّل. الصحفي الشاب، الذي كان يوثّق جرائم الاحتلال وتعرّض لتهديدات متكررة، قُتل بالرصاص أياماً بعد وقف إطلاق النار، ليس على يد جنود أو طائرات إسرائيلية بل على يد مسلحين فلسطينيين. كشف هذا الاغتيال أن الحرب تستمر بوسائل أخرى: لقد نجحت سياسات الاحتلال في تحريض الفلسطينيين ضد بعضهم البعض، وإشعال دورة من الخوف والدماء تخدم السيطرة حتى في غياب الجنود.
منطق إسرائيل هنا واضح ومعروف: سياسة «فرّق تَسُد». مجتمع منهك بالعنف الداخلي لا يستطيع التوحّد لمواجهة المحتل. عبر تشجيع نشوء الميليشيات، تحقق إسرائيل هدفين: تفكيك وحدة الفلسطينيين وتخفيف العبء عن جيشها. بهذا تتجنّب التكاليف المباشرة والرقابة الدولية، بينما تستمر غزة بالنزيف من داخلها.
العصابات المسلحة التي تنشر الرعب في شوارع غزة ليست مدافعين عن الوطن، بل متعاونون يخدمون الاحتلال باسم آخر. لقد مُنحوا صلاحيات خلال الحرب للعمل حيث لم تستطع إسرائيل أن تعمل علنًا. وتاريخ التعامل مع المتعاونين مع الاحتلال واضح: تُستخدَم مصالحهم ثم تُلقى بهم. حينما يُستنفَد دورهم، يُنزع سلاحهم أو يُقمعون، ويُتركون بلا شرف أو حماية. من يوجّه سلاحه إلى شعبه قد يظن نفسه قويًا، لكن مصيره واحد: رفض المجتمع، ونبذ التاريخ، وحتى خذلان من استعمله.
عواقب هذا الواقع على الفلسطينيين كارثية. لا ينبني التحرير على الخوف. حين تفقد المقاومة صفاءها الأخلاقي وتصبح لا تَميِّز بين القمع والحرية، تفقد شرعيتها. القضية الفلسطينية لم تكن يوماً مجرد بقاء؛ لقد كانت دائماً مطالبة بالكرامة والعدالة والحرية. لا يمكن لهذه القيم أن تصمد في مجتمع يخشى ليس فقط طائرات العدو بل أيضاً المسلحين المحليين الذين يرهبون أحيائه ويخدمون مصالحهم ومصالح المحتل. التاريخ الإقليمي يشهد: من لبنان إلى العراق استُغلّت الميليشيات لتفتيت المجتمعات. وما إن تُطلق هذه القوى حتى نادراً ما تخدم شعبها؛ إذ تتحول ولاءاتها إلى تقاتل على السلطة أو المكاسب الشخصية أو خدمة راعٍ خارجي.
المهمة المطروحة أمام الفلسطينيين عاجلة ووجودية: منع انزلاق غزة إلى أرض تحكمها ميليشيات بدل أن تتحد تحت راية التحرير. هذا يتطلّب إرادة مدنيّة قوية ترفض إضفاء الشرعية على هذه الفصائل من اجل حماية النسيج الوطني، وقيادة سياسية تضع الوحدة الوطنية فوق المصالح الحزبية، ووعيًا دوليًا بأن الاحتلال لا يدمر بالأسلحة والحصار فقط، بل بتفكيك النسيج الاجتماعي وتحويل المجتمع إلى ساحة صراع داخلي.
أظهر أهل غزة شجاعة وصمودًا استثنائيين. تحملوا الحصار والقصف والنزوح الجماعي. لا يجوز أن يُطلب منهم الآن تحمل إذلال أن يحكمهم مسلّحون يخدمون أجنداتهم بينما يزعمون العمل لأجل الشعب. قوة النضال الفلسطيني قامت دائماً على وضوح أخلاقي — شعب يطالب بالحرية رغم كل الصعاب — ويجب ألا تُهدر هذا الصفاء لمن يبدّل التضامن خوفًا والعدالة استبدادًا.
قد تأمل إسرائيل بأن تُحارب بالحروب بالوكالة، متخيلةً غزة تتقاتل ذاتها بدل أن تتحدى الاحتلال. لكن أمام الفلسطينيين خيار. بإمكانهم رفض طريق الميليشيات وتأكيد أن قضيتهم أكبر من أي فصيل، وأنها أقوى من من يضع السلطة فوق المبدأ. الخطر الحقيقي اليوم ليس الغارات الجوية وحدها، بل تآكل جوهر القومية الفلسطينية: الإيمان بأن التحرير ملك للجميع ولا ينبغي أن يتحقق على حساب الحرية أو الكرامة الإنسانية.
الآراء الواردة هنا تخص كاتبها ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع الجزيرة.