سيطرة قوات الدعم السريع على حقل هجليج النفطي تعني أن أهم منشأة نفطية تعمل في السودان خرجت من سلطة الحكومة المركزية، مع توقُّف الإنتاج وإجلاء الكوادر الفنية نحو جنوب السودان.
أهمية هذا الحدث ليست رمزية فحسب؛ فهجليج تشغل مركزية استراتيجية على ثلاثة مستويات:
اقتصادياً:
حقل هجليج يعالج بين 80 و100 ألف برميل يومياً لفائدة السودان وجنوب السودان، ويمر عبره خط أنبوب إلى ميناء بورتسودان. فقدان الحقل يشكل ضربة مباشرة لإيرادات حكومة الخرطوم المتبقية ـ بما في ذلك عائدات نقل نفط جنوب السودان ـ ويقوّض الخزانة العامة ويصعِّب تمويل المجهود الحربي والخدمات.
عسكرياً:
هجليج تمثل آخر موقع استراتيجي رئيس للجيش في غرب وجنوب كردفان بعد سقوط الفاشر وعينات أخرى. انسحاب الجيش من الحقل ـ حتى لو برَّر بـ«حماية المنشآت» ـ يعكس تحوّلاً في توازن القوى لصالح قوات الدعم السريع وحلفائها، ويمنحهم قدرة أكبر على تحجيم حضور الجيش في الجنوب الغربي من البلاد.
جيوسياسياً:
الحقل حساس لكونه جزءاً من شبكة نفط مشتركة مع جنوب السودان، وقد كان عبر التاريخ محور نزاعات بين الخرطوم وجوبا (أزمة 2012 مثالاً). الآن صار موضوعاً جديداً للصراع بين الجيش والقوات الموازية، مع حكومة جوبا كطرف ثالث متضرر.
خسارة هجليج ترفع تكلفة استمرار الحرب بالنسبة للحكومة إلى مستوى لم يسبق له مثيل منذ أبريل 2023، إذ تضرب آخر «ركيزة اقتصادية» يمكن أن تستند إليها سلطة الجيش في الشرق والشمال.
تحوّل استراتيجي — لا نهاية وشيكة للحرب
من منظور سياسي-عسكري، يمكن قراءة تأثير فقدان هجليج في ثلاثة اتجاهات متداخلة:
أولاً: تعزيز قدرة الدعم السريع على فرض واقعات تفاوضية جديدة. بعد سقوط الفاشر بدأ الحديث عن عملية ترسيخ كيان شبه مستقل «دارفور/كردفان» كقاعدة للضغط على الخرطوم لاحقاً. سيمنح التحكم في هجليج ثقلًا اقتصادياً لزعيمهم حميدتي ليطالب بأنه لا يملك أراضٍ فحسب، بل يملك «ورقة دولة» على شكل مصدر نفطي استراتيجي.
ثانياً: تقييد قدرة الجيش على تمويل عملياته والحفاظ على الولاءات المحلية، خاصة بعد خسارته لمعظم ذهب دارفور وغرب السودان لمصلحة الشبكات المرتبطة بالدعم السريع. هذا يدفع الجيش للاعتماد أكثر على دعم خارجي وتمويل حربي واستيراد أسلحة، مع محاولة تعويض النقص داخلياً من خلال الضرائب في الشرق والشمال وعن طريق ما تبقى من رسوم عبور نفط جنوب السودان إن استمرت. هذا يضع أمام الجيش تحدياً كبيراً لاستدامة حرب استنزاف بالزخم نفسه.
ثالثاً: احتمال انتقال الجبهة الرئيسية إلى محور الأبيض–كادُغلي–دِلنج. تحليلات ميدانية أشارت إلى أن الدعم السريع قد يستثمر زخم سيطرته على هجليج للتقدّم نحو دِلنج وكادُغلي وربما أبو جبيهة، تمهيداً لخنق الأبيض. بهذا المعنى قد يكون معركة الفاشر معركة الغرب، فيما تصير هجليج بوابة المعركة الجنوبية-الوسطى.
ومع ذلك، لا يعني حيازة هجليج أن الدعم السريع قادر فوراً على تشغيل إنتاج النفط، خصوصاً بعد إجلاء الطواقم الفنية إلى جنوب السودان. التعقيدات الفنية لتشغيل خط الأنابيب تجعل من السيطرة حالياً بطاقة ضغط وتعطيل أكثر من كونها أصلاً إنتاجياً مستقراً.
على المدى القصير، الأثر الأكبر سيكون حرمان الخرطوم من الإيرادات، وليس نقلها بكفاءة إلى خزائن الدعم السريع.
هل سيجبر سقوط هجليج البرهان على التفاوض؟
جميع المؤشرات تُظهر أن تكلفة استمرار الحرب ترتفع اقتصادياً وسياسياً على الحكومة، لكن هذا لا يعني بالضرورة استعداداً فورياً للتسوية للأسباب التالية:
خطاب القيادة العسكرية في بورتسودان لا يزال يقوم على فكرة أن أي تسوية مبكرة مع الدعم السريع تعني مكافأة «ميليشيا متمردة» وربما نهاية الجيش التاريخي، لذا يميل القرار إلى مواصلة القتال على أمل الحصول على دعم خارجي أوسع أو تحولات داخلية في معسكر الخصم.
كما يراهن الجيش على دعم أوضح من دول إقليمية مثل مصر وبعض القوى الدولية التي تعتبر الدعم السريع تهديداً لأمنها الإقليمي. وفي المقابل يراهن الدعم السريع على أن سيطرته على الأراضي والموارد ستجبر عواصم عديدة على التعامل معه كواقع لا يمكن تجاهله.
سقوط الفاشر ثم هجليج قد لا يدفعان الطرفين فوراً إلى طاولة تفاوض جادة؛ بل من المرجح أن تزيد الانتهاكات والمجازر، ما يعني أن هجليج وحدها غير كافية لانتقال فوري نحو تسوية، لكنها تسرّع استنزاف الطرفين مما قد يجعل اللاعبين الإقليميين والدوليين أكثر إلحاحاً على التفاوض.
لا شك أن انتصار الدعم السريع في هجليج سيزيد الضغط الاقتصادي على حكومة الجنرال برهان ويضعف موقفها، لكن التحول نحو قبول تفاوض جاد يتطلب تراكم هزائم مماثلة مع ضغط خارجي واضح ـ لا يكفي هذا الحدث بمفرده.
كيف سيُعاد رسم خريطة القوة؟
عند وضع سقوط هجليج في سياق زمنّي مع سقوط الفاشر تظهر صورة أوسع: الفاشر كانت آخر معاقل الجيش الكبرى في دارفور؛ وسقوطها بعد حصار دام أكثر من 500 يوم جعل من الصعب تصور عودة الجيش للمنطقة في الأفق المنظور، وفتح الباب لظهور كيان فعلي يقوده الدعم السريع.
تقارير حقوقية ومراقبة أممية تحدثت عن مجازر ونزوح قسري واستخدام كثيف للطائرات المسيرة من الطرفين، مع هجمات على مرافق صحية وتعليمية.
انتصار الدعم السريع في الفاشر سرّع انتقال المواجهة إلى كردفان، التي تشكل «جسرًا» بين الغرب والوسط. تحركات الدعم السريع في غرب وجنوب كردفان، وتحالفاته الموضعية مع حركة تحرير السودان–شمال، حوّلت المنطقة إلى عقدة صراع ثلاثية: الجيش، الدعم السريع، وحركة مسلحة ذات مشروع سياسي طويل الأمد.
إعادة رسم خارطة السيطرة تبقى معقّدة؛ بعض التقارير تلمّح لاحتمال انقسام السودان إلى شمال وشرق تحت سيطرة الجيش، وغرب ومعظم دارفور وأجزاء واسعة من كردفان تحت نفوذ الدعم السريع وحلفائه. هذا السيناريو يضع الحرب في إطار «جيوسياسة إقليمية» بدل أن تكون مجرد صراع للسيطرة على الخرطوم. في هذا السياق لم يعد هجليج هدفاً نفطياً فحسب، بل حلقة في مشروع توسعي موازٍ للدولة المركزية.
دور ترامب وحديثه عن «تدخل شخصي»؟
خلال الأسابيع الماضية تزايدت الإشارات إلى دور الإدارة الأمريكية الجديدة، الذي كرره الرئيس أكثر من مرة، خصوصاً عقب لقائه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي دعا ترامب للتدخل شخصياً ضمن إطار تنسيقي رباعي (السعودية، الإمارات، مصر، الولايات المتحده).
وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو قال إن ترامب «يشرف شخصياً على الجهود لوقف الحرب في السودان»، مرفقاً بتحذير للخرطوم من السماح لروسيا بقاعدة بحرية على البحر الأحمر.
تقارير صحفية دولية قالت إن الحكومة السودانية في بورتسودان عرضت على روسيا اتفاقية مدتها 25 عاماً لإنشاء أول قاعدة بحرية روسية في إفريقيا، مع منح موسكو امتيازات تعدين ذهبية. مثل هذا التطور سيمنح روسيا موطئ قدم استراتيجي لمراقبة الملاحة إلى ومن قناة السويس، ما يثير قلق واشنطن المتنافسة مع موسكو وبكين على النفوذ العسكري في أفريقيا. في المقابل، قد تحصل الخرطوم على أسلحة ومنظومات دفاع جوي روسية بأسعار تفضيلية، لكن مسؤولين سودانيين حذروا من أن الصفقة قد تعرّض البلاد لمشكلات مع واشنطن والاتحاد الأوروبي. خبراء عسكريون أمريكيون يرون أن قاعدة روسية في بورتسودان ستعزز قدرة موسكو على إسقاط نفوذها بالمنطقة ورفع مكانتها الدولية.
من الواضح أن إدارة ترامب لن تتخذ خطوات حاسمة لإنهاء الحرب ما لم يتجمّد مشروع القاعدة الروسية تماماً؛ فواشنطن تعتبر الاتفاق تهديداً مباشراً لمصالحها في البحر الأحمر ولتفوقها الاستراتيجي في طرق التجارة العالمية، وتخشى أن يمنح وجوداً روسيا دائماً على السواحل السودانية تغيراً في ميزان القوى الإقليمي لصالح موسكو وبكين.
اتجاه جديد: اقتصاد الحرب
معركة هجليج وما يحيط بها تكشف واقعا أكثر خطورة: صعود منطق «اقتصاد الحرب» في السودان.
قوات الدعم السريع تسيطر الآن على موارد ذهبية ومسارات تجارة غير رسمية وتتجه للنفط، بينما يهيمن الجيش على الموانئ والجبايات في الشرق والشمال، وحركات مسلحة أخرى تحتفظ بموارد محلية في مناطق نفوذها. هذا التفتت في الموارد يعمّق نموذجاً يغذي الحرب ويطيل أمدها، حيث تتحول الثروات الطبيعية إلى أدوات تفاوض وسلاح ومصدر شرعية. في هذا الإطار، تبدو سيطرة هجليج خطوة إضافية نحو «تحويل الدولة إلى سلعة» — تحويل النفط والذهب إلى بديل مؤسسي للدولة نفسها.
حتى لو فُرض وقف إطلاق نار تحت ضغط دولي أو جرى اتفاق سياسي شامل، فإن استمرار شبكات الارتزاق والتجارة المسلحة سيجعَل السودان عرضة لجولات عنف متكررة كلما نشبت خلافات على توزيع الإيرادات. الدولة تتراجع، والموارد تتحول إلى نهب، والميليشيات تتأسس كمقومات اقتصادية موازية. لذلك أي مسار سلام لا يتعامل جذرياً مع اقتصاد الحرب — من خلال تفكيك الشبكات، وتنظيمها، وإعادة هيكلتها — سيقود حتماً إلى هدنة مؤقتة تسبق انفجاراً آخر.
خاتمة
تقدّم قوات الدعم السريع وسيطرتُها على هجليج يمثل منعطفاً حاسماً يعمّق خلّف القوى ويهزّ آخر ركائز الاقتصاد الحكومي، ما يزيد تكلفة الحرب على الخرطوم ويقرّب زمن التفاوض — لكن هذا الحدث وحده غير كافٍ دون مكاسب ميدانية تراكمية وضغط دولي متزامن. بين سقوط الفاشر وهيجليج يتبيّن أن السودان يتجه نحو تفكّك مكاني إلى ساحات نفوذ بدلاً من حرب تقليدية تستهدف العاصمة. هذه الحقيقة تفرض مقاربة سلام تتجاوز الثنائي بين الجنرالين: البرهان وحميدتي. وفي هذا السياق قد يشكّل تدخل الرئيس ترامب محفّزاً لمسار تفاوضي جديد، لكن نجاحه سيبقى مرهوناً بقدرته على دعم عملية سودانية داخلية أوسع تُشارك فيها المدنيون وتعالج جذور النزاع، وقبل كل شيء تفكيك اقتصاد الحرب الذي يغذي استمرار الصراع.