كيف شكّلا صدعان قديمان جزيرةً نابضةً بالحياة

تشكّلت منحدرات مدغشقر وهضابها المتدحرجة وأنهارها المتعرِّجة ليس بفعل حدث عنيف واحد، بل بفعل حدثين تكتونيّين هائلين وقعا بفاصل زمني قدره عشرات ملايين السنين، فأنتجا منظرًا طبوغرافيًا بديعًا ومعقّدًا.

الانحناءات الطبوغرافية كانت نتيجة لميول في الكتلة الأرضية أعادت توجيه مجاري الأنهار ونحتت أشكال الجزيرة: جروف حادة تنحدر إلى المحيط الهندي على الجهة الشرقية وسهول رخوة تمتد نحو قناة موزمبيق على الجهة الغربية. ومعًا أنتجت هذه القوى ليس مجرد منظر خلّاب، بل نظامًا إيكولوجيًا من أغنى أنظمة الأرض من حيث التنوع الحيوي.

شقّان قديمان، جزيرة واحدة استثنائية
قبل أن تقف مدغشقر منفردة في المحيط كانت جزءًا من قارة غوندوانا القديمة. قبل نحو 170 مليون سنة حدث الانفصال التكتوني الأوّل الذي فصلها عن أفريقيا؛ ارتفع الغلاف الصخري مطويًا مكوّنًا جرفًا غربيًا ضخمًا، وكانت الأنهار تنحدر نحو الشرق نحو المحيط الهندي وتقطع وديانًا عميقة في هضبة صاعدة.

بعد نحو 80–90 مليون سنة فُتح شق ثانٍ بين مدغشقر والهند وجزر السيشيل؛ مالت الجزيرة من جديد لكن بجهة معاكسة، فالمناطق التي كانت تميل شرقًا بدأت تنحدر نحو الغرب، ما عكس مجاري أنهار وغير حوض التصريف الرئيسي نحو الشرق. تآكل الجرف الغربي الطاغي حتى تحوّل إلى هضاب متناثرة، بينما نهض خط منحدر جديد حاد على الساحل الشرقي.

“قمة حوض المياه هي مفتاح جغرافيا مدغشقر”، هكذا يوضح رومانو كليمنتوتشي، عالم جيولوجيا في ETH Zurich والمؤلف الرئيسي للدراسة المنشورة في Science Advances. “في كل مرة ما مالت فيها الجزيرة، قفز خط فصل المياه الذي يوجّه الأنهار بين الشرق والغرب عبر سطح الجزيرة، فغيّر طريقة تشكّل الأرض بفعل المياه والتعرية.”

أنهار تعيد رسم الأرض
لم تقتصر تأثيرات الميول على مجرد تغيير اتجاه مجاري الأنهار، بل أعادت بناء سطح الجزيرة: تَركت أقدام مجاري قديمة، ونُحتت وديان جديدة، وبعض الأنهار عكست مجراها. النتيجة مشهد بارز: جروف شديدة الانحدار وأنهار سريعة في الشرق، ومنحدرات رقيقة وسهول واسعة في الغرب.

يقرأ  ميليسا تستهدف منطقة الكاريبي — الجزر ترفع حالة التأهبأخبار أزمة المناخ

باستخدام تصوير فضائي عالي الدقة وبيانات التعرية ونماذج حاسوبية، رصد فريق كليمنتوتشي تحوّل الجزيرة بتمعّن استثنائي. واستعين بإيزوتوبات كونيّة مثل البريليوم-10 لقياس سرعة تعرية الصخور المكشوفة لأشعة الكون وكيف أعادت النحت تشكيل المشهد الجيولوجي خلال ملايين السنين.

تُظهر النتائج أن التعـرية ما زالت في أشدها على طول الجرف الشرقي؛ ففي الجنوب يتراجع الحاجز الصخري بنحو 170 مترًا لكل مليون سنة، أما في الشمال — منطقة أكثر نشاطًا تكتونيًا — فترتفع وتيرة التراجع لتصل تقريبًا إلى 3800 متر لكل مليون سنة. بالمقابل، تهدأ وتيرة التعرية على الهضبة الوسطى لتكون حوالى سبعة أمتار لكل مليون سنة، محافظّةً على بقايا من سطح مدغشقر القديم.

إعادة خلق جزيرة في حركة
لتثبيت استنتاجاتهم شغّل الباحثون محاكاة حاسوبية للماضي الجيولوجي لمدغشقر؛ كل حدث انفصالي أدى إلى غرق جانب من الجزيرة وظهور جرف جديد تآكل تدريجيًا إلى الداخل. وخلال الشق الثاني انقلب الميل من جديد فأُعيد تشكيل المنظر بأكمله. نجحت النماذج في استنساخ ملامح الجزيرة المعاصرة — الجرف الشرقي الحاد، والمنحدر الغربي اللين، ونقاط الانحدار الحادة في مجاري الأنهار (knickpoints) التي تعتبر آثارًا متبقية لتغيّرات قديمة في شبكة التصريف.

ولا تتوقف القصة عند هذا الحد: القوى البركانية والتكتونية لا تزال تشكّل مدغشقر اليوم، خاصة في حقول بركان أنكاراترا وحزام آلاوترا–أنكاي. هذه المناطق النشطة ما تزال تغيّر مجاري الأنهار، وتغرق أجزاء من الهضبة، وتسبب هزّات أرضية طفيفة — دلائل أن قشرة الجزيرة بعيدة عن السكون.

مشهد ولّد الحياة
كان يُعزى التنوع البيولوجي الهائل في مدغشقر — من الليموريات والحرباء إلى أشجار الباوباب — إلى العزلة والمناخ. تضيف دراسة كليمنتوتشي عاملًا جيولوجيًّا رئيسيًا آخر. وجد الفريق ارتباطًا قويًا بين معدلات التعرية وتنوّع النباتات على طول الجرف الشرقي؛ حيثما كانت المنحدرات أشد وتغيّرات الأنهار أكثر تكرارًا، تضاعفت أنواع النباتات — من حوالى 1200 نوع في الجنوب إلى أكثر من 2000 في الشمال. لا تفسر الأمطار وحدها هذا الفارق؛ بل يبدو أن التشظّي المستمر للبيئات بفعل تغيّر السطح أجبر الأنواع على التفرّع والتطوّر بمعزل عن بعضها البعض.

يقرأ  مشرّعون متشدّدون يطالبون بسلاح نوويبينما تستعدّ إيران لعقوباتٍ من الأمم المتحدةأخبار الصراع الإسرائيلي–الإيراني

بعبارة أخرى، عملت تضاريس مدغشقر المتغيرة كمِضخّة للتكاثر النوعي؛ عندما غيّرت الأنهار مجراها أو تعمقت الوديان انعزلت مجموعات من الكائنات وبدأت تتطوّر مستقلّةً. هذه العملية ساهمت في إنتاج التنوع المذهل للجزيرة: أكثر من 90% من الثدييات والزواحف وقرابة أكثر من 80% من النباتات لا توجد في أي مكان آخر على الأرض.

“تُظهر أبحاثنا أن القوى التكتونية القديمة أعادت شباب سطح مدغشقر”، قال كليمنتوتشي. “بميولها للجزيرة وتحويلها لمجاري الأنهار وجبالها خلقت بيئات مجزأة حيث تطوّرت الأنواع في عزلة — خصوصًا على الجرف الشرقي اللافت.”

دروس من قارة «هادئة»
تتحدى قصة مدغشقر الفكرة القائلة بأن الحواف القارية الموصوفة بأنها «سلبية» — مثل البرازيل أو جنوب أفريقيا أو أستراليا — مستقرة جيولوجيًا. حتى بعد انتهاء الرّفتين، يمكن لحركات بطيئة وثابتة أن تستمر في إعادة تشكيل المناظر الطبيعية والتأثير على الأنظمة البيئية.

قد يفسّر هذا أيضًا سبب احتضان جزر «قديمة» أخرى لكميات هائلة من التنوع الحيوي. حتى التحولات الجيولوجية الطفيفة المتراكمة على مدى ملايين السنين قادرة على تشكيل كيفية تشكّل الأنواع وتكيّفها وبقائها.

لماذا يهمّ الأمر
بربط الجيولوجيا بالتنوّع البيولوجي، تبرز الدراسة عمق العلاقة بين الحياة وكوكب متحوّل؛ الأجزاء الحيّة وغير الحيّة للأرض تتطور معًا، كلٌ يؤثر على الآخر عبر الزمن. وبالنسبة للمحافظين على الطبيعة، تؤكد النتائج ضرورة حماية المناظر الطبيعية ككل وليس الموائل المعزولة فحسب، لأن القوى التكتونية والتعرية نفسها التي خلقت التنوع قد تؤدي، إذا تعرّضت للتغيير، إلى تفتيت الأنظمة الإيكولوجية بشكل دائم.

بينما تستمر مدغشقر في التحرك والتآكل، تظل شاهدًا حيًا على أن الأرض ليست ساكنة — إنما تميل وتتنفّس وتبني الحياة في آن واحد.

نتائج البحث منشورة في دورية Science Advances.

يقرأ  كيف تُشارك في الأسبوع الوطني لسلامة حافلات المدارس ٢٠٢٥

أضف تعليق