تشكل الاضطرابات السياسية وقوداً لمخاوف ركود اقتصادي في ثاني أكبر اقتصاد أوروبي، إذ أن النمو الهش أظهر مؤخراً قدرة مفاجئة على المقاومة رغم أثر الرسوم الجمركية على التجارة.
ومع أن المؤشرات الاقتصادية تبعث على بعض التفاؤل، فإن فرنساا تواجه حاجة ملحّة لتقوية أوضاعها المالية؛ عجزها يصل إلى 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي، ودينها يقف عند نحو 113% بحلول نهاية 2024.
التقشف الضروري يثير جدلاً سياسياً حاداً، وقد أدى في العام الماضي إلى سقوط الحكومة التي كان يقودها رئيس الوزراء ميشال بارنييه. وفي 8 سبتمبر 2025، قد يواجه رئيس الوزراء فرانسوا بايرو مصيراً موازياً خلال تصويت بحجب الثقة دعا إليه لمحاولة ضمان تأييد الجمعية الوطنية لخطة توفير بقيمة 44 مليار يورو.
المعارضة التي تهيمن على البرلمان وعدت بصوت شبه مؤكد بإسقاطه، ما يهدد البلاد بحالة من اللايقين السياسي والاقتصادي. وإذا لم تتبلور أمام الأسر والشركات والمستثمرين مسارات واضحة، فقد ينعكس ذلك بسرعة على زخم الإنتاج غير المستقر حالياً.
اقتصاد فرنسا يكافح من أجل استعادة زخمه؛ فقد ظل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي على أساس سنوي أدنى من 1% منذ الربع الرابع من 2024. ومع ذلك، شهدت القراءة ربع السنوية ارتفاعاً بنسبة 0.3% في الربع الثاني مقارنة بالثلث الأول من العام، بعد توسع طفيف نسبته 0.1% بين يناير ومارس، ما يعكس مرونة نسبية في فترة بدأت فيها الولايات المتحدة بفرض رسوم على شركائها التجاريين.
وفي مؤشر مشجع، أظهرت بيانات التصنيع الحديثة بداية انتعاش القطاع الصناعي في أغسطس للمرة الأولى منذ سنتين ونصف.
وعلى الرغم من النقائص الاقتصادية، يرى محللون أن احتمال انزلاق الاقتصاد إلى ركود بفعل الاضطراب السياسي غير مرجح. جيـرمي بيلوسو، كبير استراتيجيي أوروبا في بي سي إيه ريسيرش، قال لموقع يورونيوز بيزنس إن “المؤسسات الفرنسية قوية”، مما يعني أن أي انتقال سياسي محتمل سيكون “سلساً”. وأضاف أن أثره على النشاط الاقتصادي سيكون محدوداً على الأغلب، وسيقتصر على زيادة عدم التيقن وضرب ثقة المستهلكين والشركات، لكن حتى في هذه الناحية يتوقع أن يكون التأثير محدوداً.
الاتحاد الأكبر للأعمال الفرنسي، ميديف، يختلف في التقييم. باتريك مارتن، رئيس المنظمة، حذر من أن عدم اليقين السياسي يؤدي فورياً إلى نتائج ملموسة مثل تجميد الاستثمارات، فقدان الثقة، ارتفاع خطر الإفلاس، وتدمير فرص العمل. وأكد خلال مؤتمر أعمال عقد في 28 أغسطس: “إذا تعذر على الشركات الاستثمار فسوف ينهار النمو وفرص العمل، وتتعرض فرنسا لخطر الدخول في ركود”.
وأشار مارتن إلى أن قطاعات مثل البناء والكيماويات والفنادق والمطاعم تعاني أصلاً، وحذر من أي زيادات ضريبية إضافية قد تعيق نشاط الشركات — وهو المحرك الرئيس للنمو الضروري لخفض العجز والدين العامين.
من وجهة نظر الحكومة، فإن خفض الإنفاق وزيادة الإيرادات الضريبية أمور لا بد منها لتحقيق خفض العجز إلى 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل مستوى متوقع عند 5.4% هذا العام، وفق ما يؤكد رئيس الوزراء فرانسوا بايرو. وفي مقابلة إذاعية مساء الأحد اعتبر أن التصويت الحالي على حجب الثقة حاسم لمصير البلاد.
وتُظهر الأرقام واقعاً مالياً معقّداً: وفقاً للمعهد الوطني للإحصاء (INSEE)، بلغ دين الدولة نحو 3.345 تريليون يورو في نهاية الربع الأول من 2025. كان الدين يمثل حوالى 60% من الناتج في مطلع الألفينات، لكنه ارتفع ليصل إلى 116% هذا العام.
وزارت أميلي دو مونتشالان، وزيرة الميزانية، في مقابلة حزيران/يونيو أن فرنسا قد تواجه وضعية إشراف من قبل صندوق النقد الدولي أو مؤسسات أوروبية مماثلة كما حدث مع دول peripheral بعد أزمة 2008. لكن رئيسة البنك المركزي الأوروبي وكبيرة سابقيه في صندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، استبعدت ذلك لدى حديثها لإذاعة فرانس راديو كلاسيك، مشيرة إلى أن اللجوء لصندوق النقد يحدث عندما تعاني الدولة عجزاً حاداً في الحساب الجاري وتعجز عن الوفاء بالتزاماتها — وهو ما ليس عليه الحال مع فرنسا اليوم — مع إعرابها عن قلقها حيال الأوضاع.
بيلوسو أيضاً مقتنع بعدم وقوع كهذا السيناريو: “فرنسا لن تُوضَع تحت إشراف صندوق النقد. فرنسا ليست بعد الأرجنتين أو اليونان”، كما قال.
مع ذلك ارتفعت عوائد سندات الخزانة السيادية، ما يعكس قلق المستثمرين، لكن قدرة فرنسا على الوصول إلى الأسواق المالية تظل سليمة — وهو ما يظل الأهم في النهاية، وفق بيلوسو. تكاليف الاقتراض تعكس أن مدفوعات الفائدة الصافية للحكومة باتت تقترب من 2% من الناتج، الأعلى خلال عقد لكنها لا تزال “محتواة إلى حد ما”. ومع الاتجاهات الراهنة، قد تتزايد هذه التكلفة بشكل حاد خلال السنوات المقبلة.
أحد آثار الاضطراب السياسي هو ارتفاع مخاطر خفض التصنيف الائتماني للديون السيادية الفرنسية، مما يرفع العوائد أكثر. بيلوسو توقع أن “فرنسا مرجح جداً أن تشهد تخفيضاً في تصنيفها الائتماني وقد تُخرج من نادي AA”، مع توقع مزيد من ارتفاع العوائد في حال تحقق ذلك.
إذا خسرت الحكومة الحالية التصويت يوم الاثنين، يتوقع كثيرون أن يعين الرئيس إيمانويل ماكرون رئيس حكومة جديداً، لكن الشلل السياسي قد يستمر، بحسب بيلوسو. وحتى الآن يبدو أن أية حكومة وسطية تعينها الرئاسة لا تنجو عند تقديمها لموازنة، ولا يتوقع المحللون تغيراً كبيراً حتى 2027 حين تنتهي ولاية ماكرون وقد تتبدل موازين القوى السياسية.
وبينما يستمر هذا المناخ المتوتر، ستكون أولوية الحكومة المقبلة على الأرجح، كما ترى أوكسفورد إيكونوميكس، تمرير ميزانية دون أن تسقطها — ما يخفض من فرص أي ضبط مالي جاد قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في 2027، وبالتالي من المرجح أن يواصل الدين الفرنسي صعوده. وتتوقع أوكسفورد إيكونوميكس أن يتجاوز الدين العام عتبة 120% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية 2027.