لا صمت للجياع

لا يزال كثيرون في أجزاء من لواندا، عاصمة أنغولا، يخشون الحديث بصراحة عما جرى في يوليو الماضي، عندما أدت الاحتجاجات إلى شلل جزئي للمدينة واندلاع اضطرابات في محافظات أخرى. ما بدأ كدعوة من سائقي سيارات الأجرة للاحتجاج على ارتفاع أسعار الوقود تحوّل عبر ثلاثة أيام إلى موجة عنف أودت بحياة ما لا يقل عن ثلاثين شخصًا وجرى على أثرها اعتقال الآلاف.

تم إغلاق الطرق بإطارات مشتعلة، ونهبت محالّ تجارية، واندلعت اشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن. كانت هذه واحدة من أبرز موجات الاحتجاج منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 2002. في سياق الاستعدادات للاحتفال بخمسين عامًا على الاستقلال عن البرتغال في 11 نوفمبر، كشفت تلك الاحتجاجات عن مخاوف مستمرة تتعلق بالفقر وعدم المساواة.

في الأحياء التي شهدت أعنف المظاهرات، يفضل أغلب الساكنين الصمت، خشية الانتقام أو التعرض للملاحقة، لا سيما بعد العدد الكبير للاعتقالات أثناء الاحتجاجات وبعدها. قال بائع متجول في شارع بلدية لواندا يبلغ من العمر 24 عامًا، وهو يرفض الكشف عن هويته، لـBBC: «ربما خرجت الأمور عن السيطرة بعض الشيء، لكن كان لا بد أن نحدث ضجيجًا يستفزّ من في السلطة ويوقظهم». ترك المدرسة قبل إكمال التعليم الثانوي ويبيع المشروبات الغازية على طول avenida Pedro de Castro Van-Dúnem Loy، إحدى الشرايين الأكثر ازدحامًا في العاصمة، ليعيل أسرته.

يعتمد كثير من الأنغوليين على العمل في القطاع غير الرسمي لكسب رزقهم، مثل نشاط الباعة في الشوارع. هذا الشاب واحد من ملايين يكافحون لتأمين حاجاتهم وسط ناطحات سحاب لامعة شُيِّدت بأموال النفط. انضمامه إلى اليوم الأول من الاحتجاجات كان رسالة بأن «لدينا صوتًا» وأن أمثالهم يستحقون نصيبًا من ثروة بلدٍ «غني للبعض وبائس لكثيرين منا».

يقرأ  انهيار أرضي في السودان يودي بحياة ما لا يقل عن ألف شخص، بحسب مجموعة متمردة

يعد بطالة الشباب أحد المحركات الرئيسة للاحتجاجات في بلد شاب يبلغ متوسط عمر سكانه أقل من ستة عشر عامًا. تُظهر الأرقام الرسمية أن معدل البطالة بين الفئات العمرية من 15 إلى 24 عامًا يصل إلى 54%. من بين 18 مليون شاب في سن العمل، لا يعمل في القطاع الرسمي سوى ثلاثة ملايين فقط — أي من يحصل على أجور منتظمة ويدفع ضرائب. في المدن الكبرى تبرز معاناة الشباب العاطلين عن العمل، الذين لم يعودوا في المدارس، كدليل على فشل الدولة في تلبية تطلعاتهم.

يقول البائع: «أبيع في الشارع حين أستطيع أن أجمع ما يكفي لشراء المشروبات. ثم تأتي شهور لا أبيع فيها شيئًا لأن الحركة ضعيفة. أنا وكثير من الشباب نعيش هكذا ولا أحد يلتفت إلينا. لذلك لم نعد نستطيع الصمت». لم يستغرب عالم الاجتماع الأنغولي جيلسون لازارو من تفجر الاحتجاجات في يوليو، واصفًا المشاركين فيها بأنهم «محرومون»؛ «هؤلاء شباب، في الغالب، لم يعد لديهم شيء سوى حياتهم. لذا خرجوا إلى الشوارع بلا خوف»، كما قال.

انطلقت التظاهرات بشكل عفوي في بعض الأحياء الأكثر اكتظاظًا وفقراً في لواندا، حيث يفتقر بعض السكان إلى الصرف الصحي الأساس وغيرها من البنى الأساسية الضرورية. تدريجيًا انتقلت المظاهرات إلى الشوارع والطرق الرئيسية للعاصمة، محدثة فوضى وكاشفة لِـ«قضية اجتماعية طال وجودها لكن النخبة السياسية آثرت تجاهلها»، بحسب لازارو. وأضاف: «منذ مدة يتجه البَلَد إلى أزمة شرعية عميقة — اجتماعية واقتصادية وقبل كل شيء سياسية — والجذر في طريقة الحكم المعيبة منذ 2002».

حكمت حركة التحرر الشعبي لأنغولا (MPLA) البلاد طيلة عقود الاستقلال الخمس. كانت هناك آمال حين تسلم جواو لورنسّو الرئاسة عام 2017 خلفًا لجوزيه إدواردو دوس سانتوس، الذي حكم 36 عامًا، بأن يحدث تغييرًا. وها هو الآن في فترة ثانية بعد انتخابات 2022. وعد لورنسّو بإصلاح النظام الموروث من سلفه: محاربة الفساد، وتنويع الاقتصاد، وخلق فرص عمل. لكن بعد ثماني سنوات يجادل منتقدوه بأنه فشل في تحقيق هذه الوعود ويعجز عن احتواء أزمة غلاء المعيشة — إذ تبقى معدلات التضخم مرتفعة نسبيًا بنحو 18% سنويًا. وفق مسح أفروباروميتر 2024، يرى 63% من الأنغوليين أن الأوضاع الاقتصادية ساءت مقارنة بالعام السابق.

يقرأ  لماذا تُعدّ المراجعات ضرورية؟بناء الثقة وتعزيز مبيعات البرمجيات

تحمل الشباب وطأة هذه المشاكل وكانوا في طليعة معظم الاحتجاجات المناهضة للحكومة في السنوات الأخيرة، مطالبين بمكافحة الفساد والوحشية الشرطية وإجراء انتخابات محلية، ومحتجين ضد الجوع والفقر. ومع ذلك، لم يسبق لمثيل ما حدث في يوليو من حيث الحجم. تقول ليا كومبا، طالبة علوم سياسية تبلغ 20 عامًا: «كانت احتجاجات الوقود مرعبة لكنها متوقعة إلى حد ما، بالنظر إلى واقع بلادنا الراهن. نعيش في بلد يتجاهل فيه أصحاب القرار الشباب. والاحتجاجات هي الوسيلة الوحيدة لإظهار السخط على الظروف الهشة التي نعيشها».

اتخذت الحكومة موقفًا مغايرًا. لم يرد مسؤول حكومي على طلب BBC للتعليق على الاحتجاجات وتبعاتها، لكن الرئيس لورنسّو أوضح موقفه في خطاب وطني في الأول من أغسطس، مدينًا ما حصل بوصفه «أعمالًا ارتكبها مواطنون غير مسؤولين، تلاعبت بهم منظمات مناهضة للوطن سواء داخلية أو خارجية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما جلب الحزن والدمار للممتلكات العامة والخاصة، وقضى على سبل الحصول على السلع والخدمات الأساسية، وفقدان وظائف لأنغوليين».

رغم وعود التنويع، لا تزال أنغولا تعتمد اعتمادًا شبه كلي على النفط والغاز كمصدر رئيسي للصادرات وإيرادات الحكومة. يرى الاقتصادي الأنغولي فرانسيسكو باولو أن «الموارد الطبيعية جيدة، لكن المشكلة في كيفية استخدام عائداتها». وأضاف: «لو اتبعت أنغولا نماذج مثل النرويج أو السعودية، واستثمرت ثروة النفط في تقوية القطاعات غير النفطية وتطوير القوى العاملة، لكان ذلك نعمة. للأسف، تُنفق العائدات هنا في مصاريف سطحية بلا قيمة مضافة».

بعد رحيل دوس سانتوس شهدت أنغولا خمس سنوات متتالية من الانكماش الاقتصادي بين 2017 و2021. عاد النمو عام 2022 بدعم من قطاعات غير نفطية، لكن هذا النمو لم ينعكس ملموسًا على حياة الغالبية. في تقرير هذا العام قدّر البنك الدولي أن أكثر من ثلث السكان يعيشون بأقل من 2.15 دولار في اليوم، مشيرًا إلى أن الاقتصاد رغم اتساعه لا يواكب نمو السكان، ما يعني تراجع المستويات المعيشية في المتوسط.

يقرأ  إجلاء واسع في ألاسكا بعد ذوبان جليدي يثير مخاوف من فيضانات قياسية تهدد جونو

مع اقتراب احتفالات الاستقلال تُستكمل تحضيرات لفعاليات ترفيهية ورسمية، من مهرجانات موسيقية إلى تسليم ميداليات رئاسية ومباراة كرة قدم يُشاع أن ليونيل ميسي سيشارك فيها. غير أن ليا كومبا تشكك في شعار الحزب الواحد القديم «شعب واحد، أمة واحدة» الذي رفعه النظام الماركسي-اللينيني في أواخر السبعينيات: «ليس صحيحًا أننا نتشارك نفس الواقع. هناك تفاوت هائل. الشباب في المناطق المهمشة يكادون محكوم عليهم بالفقر المدقع، بلا تعليم نوعي أو وظائف لائقة، حتى لو اجتهدوا وحصلوا على شهادة». وأضافت: «يفكر هؤلاء الشباب ببطونهم؛ فالجوع يجعلهم بلا ما يخسرون. هم من ملأوا الشوارع».

ترى أن «على السلطات النظر إلى الأسباب الجذرية لا الاقتصار على معالجة النتائج»، واصفة النهب بأنه الوسيلة التي وجدها الشباب لجذب انتباه من في السلطة. وتتوقع أن تشهد البلاد مزيدًا من الاحتجاجات حتى انتخابات 2027؛ فوعيًا سياسيًا آخذ في التبلور، وتُنظر الانتخابات كفرصة حاسمة للتغيير الحقيقي.

أضف تعليق